تعتبر جريمة الاغتيال السياسي من أخطر الجرائم التي تهدد السلم والأمن الدوليين، كما أنّها تتعارض مع قواعد القانون الدولي. يحرم القانون الدولي الاغتيال السياسي ويعتبره استخفافًا بحقوق الإنسان وجريمة حرب. حيث تجرّم القوانين الدولية القتل خارج نطاق القانون. تنصّ المادة 3 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 على أن لكل فرد حقًا في الحياة والحرية والأمان. أنه لا حاجة إلى شهادة في القانون لفهم ما يجري، إذ يمكن الحصول على فكرة عن الإنتاج اليومي لخطاب الكراهية في إسرائيل من خلال مشاهدة مقاطع الفيديو الخاصة بالجنود والمطربين والفنانين والسياسيين والاستماع إليها.
أن العدالة الدولية ـ أو المحاسبة على الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية ـ هي ركن ضروري من أركان احترام حقوق الإنسان. ويعمل برنامج العدالة الدولية على صوغ التحقيقات، والضغط من أجل الاعتقال والتعاون، والمناصرة من أجل آليات العدالة الفعالة. كما نتفاعل على نحو نشط مع المحكمة الجنائية الدولية وغيرها من المحاكم الدولية، إضافة إلى جهود المحاكم الوطنية بما في ذلك في غينيا وساحل العاج وجمهورية الكونغو الديمقراطية والبوسنة، لتقديم مرتكبي أسوأ الجرائم للعدالة. ونؤيد جهود المحاكم الوطنية لاستخدام القوانين الوطنية في محاكمة المتهمين بالجرائم الخطيرة التي انتهكت القانون الدولي، بغض النظر عن موضع ارتكاب الجرائم.
لكن حقوق الضحايا تتوقف على استعداد الحكومات تحمّل المسؤولية، وتطبيق هذه الإجراءات. تتطلب العدالة المحايدة دعما سياسيا وعمليا ثابتا، بالإضافة إلى تفكيك المعايير المزدوجة التي لا تزال تشكل عقبات أمام الوصول المتساوي للضحايا إلى العدالة.
الاستجابات غير المتناسقة، لا سيما من حكومات بلدان الشمال، تغذي المفهوم الخطير بأن بعض الضحايا يستحقون العدالة أكثر من غيرهم. وهي من عوارض ازدواجية المعايير التي تؤثر على النظام الدولي الأوسع، وغالبا ما تعزز موروثات استعمارية تُغذي أوجه الخلل الكامنة في موازين القوى، التي قد تؤدي إلى عدم المساواة في الوصول إلى العدالة.
ينبغي عدم القبول بحتمية ازدواجية المعايير، كما ينبغي تخطيها من أجل تحقيق النظام القضائي الدولي لوعوده. شرعية النظام من أساسه على المحك. أنه تم انتهاك جميع متطلبات القانون الدولي للتحقيق في حالات الوفاة غير القانونية المحتملة، بما في ذلك السرعة والفعالية والشمول والاستقلال والحياد والشفافية. لان عدم إجراء تحقيق سريع وفعال، تتبعه ملاحقة وإجراءات قضائية، “قد يشكل في حد ذاته انتهاكاً للحق في الحياة”. إن العدالة ليست خياراً بل ضرورة وطنية. في ضوء الأزمات المستمرة، استطاعت المحكمة برغم كل العراقيل والصعوبات من إتمام مهماتها، وسيشكل الحكم الذي ستلفظه حداً لهذا المسار، ويفتح مرحلة جديدة سيكون عنوانها ملاحقة المجرمين وتطبيق العدالة بحقهم حفاظاً على السلم الأهلي ومنع تكرار مثل هذه الجرائم الإرهابية. إدانة المرتكبين وتسميتهم بأسمائهم في حيثيات الحكم المرتقب صدوره، ستثقل بيئة هؤلاء وعلاقاتهم مع الجوار ومع الآخرين، وتنعكس سلباً على عائلاتهم، مهما حاول الحزب تسخيف الحكم والتهرب من تسليم الجناة
إن محاربة الإفلات من العقاب في الجرائم الأكثر جسامة (الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية والاختفاء القسري) يساهم أيضا في تجنب حدوث مثل هذه الجرائم وفي إنصاف ضحايا تلك الجرائم. ويهدف ذلك في نهاية المطاف إلى تعزيز سيادة القانون وبناء مجتمع أكثر عدلا.
اكتسبت الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان تجربة فريدة في مجال محاربة الإفلات من العقاب، إذ هي الوحيدة من بين المنظمات الدولية المدافعة عن حقوق الإنسان ذات الأغراض العامة التي تقوم على نحو متواصل بتقديم المساعدة القضائية لضحايا الجرائم الدولية.
تتخذ الفدرالية الدولية إجراءات في المحاكم الوطنية، بما في ذلك ما يدخل في إطار تطبيق الولاية القضائية العالمية أو خارج الإقليم للدول، وفي المحاكم الدولية مثل المحكمة الجنائية الدولية والدوائر الاستثنائية في المحاكم الكمبودية.
كما تتحقق الفدرالية الدولية من أن حقوق ضحايا الجرائم ذات الطابع الدولي محترمة في تعريف وتنفيذ أعمال واستراتيجيات الهيئات والمحاكم الدولية.
في خطوة أثارت جدلاً واسعًا، وقّع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمرًا تنفيذيًا بفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، متهمًا
إياها بالقيام “بأعمال غير مشروعة ولا أساس لها” تستهدف الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل. يأتي هذا القرار بعد إصدار المحكمة أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، بتهم تتعلق بجرائم حرب في غزة.
تشمل العقوبات تجميد الأصول في الولايات المتحدة وحظر السفر على الأفراد المشاركين في تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية التي تستهدف مواطنين أمريكيين أو حلفاء للولايات المتحدة، مثل إسرائيل. كما أعلن ترامب “حالة الطوارئ الوطنية” للتعامل مع ما وصفه بـ”التهديد” الذي تمثله جهود المحكمة.
نددت المحكمة الجنائية الدولية بقرار ترامب، مؤكدة التزامها بولايتها القانونية، ودعت الدول الأعضاء والمجتمع المدني إلى الوقوف متحدين من أجل العدالة وحقوق الإنسان الأساسية.
يُتوقع أن تؤثر هذه العقوبات على قدرة المحكمة الجنائية الدولية في متابعة تحقيقاتها الحالية والمستقبلية، خاصة تلك المتعلقة بمواطنين أمريكيين أو إسرائيليين. كما قد تؤدي إلى توتر في العلاقات بين الولايات المتحدة والدول الداعمة للمحكمة، وتثير تساؤلات حول مستقبل العدالة الدولية ودور المحكمة في محاسبة مرتكبي الجرائم الخطيرة. هذا الإجراء المتهور يرسل رسالة مفادها أن إسرائيل فوق القانون والمبادئ العالمية للعدالة الدولية”. الجدل المحيط بمحاولة “المحكمة الجنائية الدولية” إصدار مذكرات توقيف ضد قادة الاحتلال يعكس التحديات الأوسع في السعي لتحقيق العدالة في بيئة دولية مسيسة للغاية.
خاصة أن نظر المحكمة في إصدار هذه المذكرات ضد مجرم الحرب نتنياهو ووزيرة غالانت تعقدت للأسف بتدخل المملكة المتحدة، حين أثارت الحكومة البريطانية اعتراضات على اختصاص المحكمة في هذه المسألة، متسائلة عما إذا كانت المحكمة تتمتع بالسلطة القانونية لإصدار مثل هذه المذكرات.
لم يُعطل هذا الاعتراض الصادر من قوة كبرى العملية فحسب، بل أشار أيضًا إلى عقبة دبلوماسية كبيرة، حيث يعكس موقف المملكة المتحدة شكوكًا أوسع بين القوى الغربية حول دور المحكمة في معالجة القضايا المتعلقة بالكيان، وهي التي غالبا ما يحميها حلفاؤها من الرقابة القانونية الدولية.
ويمكن قراءة الاعتراض البريطاني كجزء من نمط تاريخي حيث تحاول الدول القوية، خاصة تلك المتحالفة مع الكيان، تقييد نطاق الآليات القانونية الدولية التي قد تتيح محاسبة قادة الصهاينة عن جرائمهم بحق الشعب الفلسطيني، بما يثير شكوكًا حول حيادية العدالة الدولية عندما يتعلق الأمر بالكيان المعتاد على الإفلات من العقاب وانتهاك القانون الدولي.
لكن الوضع اتخذ منعطفًا مفاجئًا مع تغيير الحكومة البريطانية، حيث قررت الحكومة الجديدة برئاسة كير ستارمر إسقاط الاعتراض وبالتالي إزالة عقبة كبيرة أمام إجراءات المحكمة، حيث كانت هذه الخطوة حاسمة لأنها سمحت للمحكمة بالمضي قدمًا في النظر في مذكرات التوقيف دون أن تعوقها اعتراضات لاعب دولي رئيسي.
ولم يكن التأخير الذي تسببت فيه الاعتراضات البريطانية الأولية دون تداعيات إذ قدمت العديد من الدول والأفراد من مختلف الأطياف مذكرات إما لدعم أو معارضة المذكرات، خاصة أن المحكمة ملزمة بمراجعة كل هذه المذكرات بشكل شامل قبل المضي قدمًا، الأمر الذي أدى إلى إبطاء تقدم القضية، عاكسا تعقيدات العمليات القانونية الدولية، خاصة عندما تتقاطع مع القضايا السياسية الحساسة مثل الاحتلال الإسرائيلي.
غير أن هذا الجدل يسلط الضوء على الصراع المستمر من أجل العدالة والمساءلة في سياق الاحتلال الإسرائيلي، إذ يُنظر إلى الاعتراض الأولي للحكومة البريطانية كدليل آخر على المعايير المزدوجة الغربية عندما يتعلق الأمر بالكيان.
ورغم أن هذه الإجراءات القانونية وسيلة حاسمة لمعالجة مظالم الشعب الفلسطيني طويلة الأمد، يبقى الأمل في عدم تدخل الدول القوية بحيث تكون المحكمة وغيرها من الهيئات الدولية قادرة على محاسبة المسؤولين الصهاينة على جرائمهم.
دكتور القانون العام والاقتصاد الدولي
ومدير مركز المصريين للدراسات بمصر ومحكم دولي معتمد بمركز جنيف للتحكيم الدولي التجاري
وعضو ومحاضر بالمعهد العربي الأوربي للدراسات السياسية والاستراتيجية بفرنسا