لا أنسى أبداً تلك النظرة ما حييت..
لمحتها في عينيها، و هي تقول بتأمل شديد:
لا لحياة الغابة، والاستمتاع بالتمسك باغتصاب حقوق الآخرين.. فهذا مرض استفحل عند بعض الناس.
التلذذ بالاستحواذ على كل ما تصل إليه أيديهم، و التبلد أمام دموع الأبرياء، الذين سلبت حقوقهم، والاستمرار في المماطلة و الأكاذيب، من أجل التهام الفريسة حتى آخرها.
شدتني هذه الكلمات المتوجعة فسألتها بحنان:
ما قصتك؟
فاسترسلت في تلقائية وبراءة:
– أنا أشعر أن هذه الدنيا حلم وامتحان، في آن واحد، فمهما طال بنا العمر، فهو حلم سريع، فمنا من يرضى بالحلال، و يعيش حياته، في حدود رزقه وإمكاناته، و لا يقرب الحرام أبدا، ولا يستعذب من مأكله و مشربه، إلا ما كان من كده وعمله، يعشق الطهر والنقاء، وعلى الجانب الآخر، فهناك من يخلق من حلمه كابوسا، فيتبع كل ما هو غير مشروع، غير عابئ بالحلال و الحرام، ويجهل أنه لن يستمتع بكل ما جمعه من حرام، فالوقت يمر سريعا، وبعد مئة عام من الآن، كل هذه الجحافل البشرية ممن نراهم فى الشوارع، والجوامع، والكنائس، والمدارس .. كل هذا الجمع الغفير، بمشاكله، بفقره، وغناه، سيكون تحت الأرض .
يا الله..
سكون تام.. لا حركة.. لا نفس.. لا حيل.. و لا مكر.. ولا مؤامرات..
إما حفرة من النار..
و إما روضة من الجنة..
روضة لمن فوض أمره لله.
وإذا كان الأمر كذلك، فلم كل هذا الصراع الخبيث؟ و لم يحلو للبعض، أدوار الشر، غير عابئين بالنتائج الأبدية المصيرية..
الحياة حلم سريع.. لا نستطيع ان نستيقظ منه، حاملين معنا قصور أحلامنا.. بل نستيقظ منه، وننفض أيدينا من كل شيء، ونتقابل مع الحقيقة الوحيدة، ألا وهى “الموت”..
فهل تستحق الحياة؟!
هل تستحق أن نعبث كل هذا العبث، و نجمع من الحرام، ما نحمله فوق رءوسنا و صدورنا، منتظرين الحساب، حاملين هذا الحرز ؟
التفت إليها بعد أن أفقت من شرودي في كلماتها وهمست:
– كل ما حدثتني به صدق، ولا يشعر به إلا من رحم ربي.
وطلبت اليها أن تحكى لي، عن التجربة التى مرت بها، فجسمت على لسانها كل هذه المعانى، وبدا على وجهها دهشة، مُزجت بالضحك والبكاء معا .
وأخذت تسترسل في تسأولاتها :
– هل كان يجب أن يكون لنا أنياب و مخالب، لنحمى أنفسنا؟.. هل النية الحسنة وافتراض الثقة والخير عملة منتهية الصلاحية؟.. هل من يؤمنون بأن الخير ساطع ليوم الدين هم البلهاء؟..
البعض يظن هذا..لكنه ليس صحيحا؟
فالذي يحسن النية، ثم يقع فى شباك ظالم،عليه ألا يحزن .
إن الله يرى ويراقب، وسيعوضه أضعاف ما وقع عليه من ظلم، اما الظالم المحترف، فيبنى لظالم آخر، وكما يقولون، جمع الحرام على الحلال ليُكثره، دخل الحرام على الحلال فبعثره. وأنا قضيتي ليست قضية حقوق، بقدر ما هي قضية مبادئ وقيم، بدليل هذه القصة القصيرة . فأنا يا سيدتي، ذات يوم، تعرضت لسلب حقوق مادية، زائلة بزوال الدنيا، وهذا ما كان يخفف عنى، وبلا أي ترتيب منى، وقبل أن أقوم بأي إجراءات قانونية لاستردادها، ظهر فارس، من حيث لا نعلم، وأقسم أن يرد لنا هذه الحقوق، ويبدو أننا أخطأنا، ولم نفوض أمرنا لله، وفوضنا أمرنا لهذا الفارس، ونسبنا إليه الفضل، في استرداد جزء، من هذه الحقوق.
لم ننسب الفضل لله، و لاحول و لا قوة الا بالله، فما كان من الفارس، إلا أن ألقى بشباكه شبه الشرعية على هذا الجزء، مستغلاً حياءنا، لكن ما أُخذ بسيف الحياء فهو باطل، ثم عاد، راكبا فرسه، حاملا باقي حقوقنا، فى حقيبة سوداء، وهو يعلن بلا حياء أن زمن الفرسان قد ولى، وكنا لم نزل وقتها، تحت تأثير الدهشة، فلم نلحق به، وأخذ سرعته، بعد ان ألقى لنا برسالة قصيرة، من كلمتين “القانون لا يحمى المغفلين والبلهاء”.
فلا وألف لا .
منذ متى وحسن النية والثقة فى وجود الخير غفلة وبلاهة؟!!
وأخذت أعدو خلفه، وأردد:
– يا هذا لا تجعل الله أهون الناظرين إليك. يا هذا إذا ضُيعت الأمانة فانتظر الساعة.
– وبينما نحن نبكى المبادئ والقيم والحياء، الذي دهسه الفارس الزائف، وهو يبتعد بحصانه، بعيدا، إذا به يختل توازنه، ويهوي بحصانه، داخل نهر الصراعات، مستغيثاً بلا مجيب.