بعد أن تم تطهير بلاد العرب من أخر ما تبقى من الفرنجة، وعاد منهم من عاد الى بلاده، وبقي منهم من مكث فى نقطة المنتصف بين الشرق والغرب، بجزيرة قبرص على أمل العودة للشام مجددا، بدأت على يد هولاء أعمال القرصنة تنطلق من قبرص ضد سفن المماليك بمواني الأسكندرية ودمياط، بعهد ملك قبرص بطرس الأول (767 هــ /1365م).
فكان يتباهي ملك قبرص أمام نظرائه الأوروبيين بما ارتكبه ضد مصر التى مثلت وقتها عقدة لكل ملوك أوروبا سواء في الحقبة الفاطمية أو الأيوبية أو المملوكية، فمصر بتلك المراحل قضت على كل امبراطوريات وممالك الأرض التى جاءت لتغزو بلاد العرب.
الى أن تولي جانوس جاك بيدرو حكم قبرص، وسرعان ما سار على نهج سلفه بطرس الأول، بل وزاد في حماقاته، وفشلت مصر في عقد هدنة معه بعد أن تملكه الغرور، حتى شن القبارصة هجوم غادر على الإسكندرية ودمياط أرتكبوا بهما الفظائع.
وحينها كان يجلس على عرش مصر الثاني والثلاثون في ترتيب سلاطين دولة المماليك السلطان الأشرف برسباى، وقد عزم على الانتقام بعد أن فاض به الكيل من حماقات القبارصة.
فشد كل من الأمير تغردي المحمودي وإينال الجكمي الرحال من ميناء الإسكندرية على رأس حملة صغيرة بمجموعة من السفن متجهين لقبرص في 827هـ/1424م، حتى نزلت ميناء ليماسول وأحرقت ثلاث سفن قبرصية كانت تستعد للقرصنة على سفن العرب، ثم عادت الحملة الصغيرة إلى القاهرة بعد أن حققت هدفها الأول وهو توجية رسالة للعدو بأن قواعد الإشتباك تغيرت وصارت القاعدة هي العين بالعين، والهدف الثاني وهو بالون أختبار لمعرفة قدرات الجيش القبرصي في وضع الدفاع على أرضه.
وعلى أثر نتائج تلك المعركة تشجع المصريون على إعداد حملة أقوى منسابقتها، فخرجت الحملة الثانية في العام التالي مكونة من أربعين سفينة تحت قيادة الامير جرباش الكريمي، واتجهت الحملة إلى طرابلس الشامية، ومنها إلى مدينة “فاما غوستا” بقبرص، ومن هناك أرسل جرباش لجانوس يدعوه للإستسلام والدخول في طاعة السلطان برسباي، إلا أنه رفض.
فأتجهت الحملة للسيطرة على ليماسول، وبعد قتال مرير سيطروا على قلعتها تماما، وقُتل المماليك نحو خمسة آلاف قبرصي، وسحقوا قوات شقيق جانوس التي جائت لمساعدته، وعادوا إلى القاهرة ومعهم ألف أسير، فضلاً عن الغنائم التي حُملت على الجمال والبغال، بعد أن مكثت الحملة بقبرص قرابة شهرين.
حينها طلب جانوس الدعم من ملوك أوروبا، بعد أن أعد مخطط للهجوم على كافة الموانئ العربية دمياط،الاسكندرية، طرابلس، بيروت، فجاء الدعم لجانوس من كافة الأوروبيين وفي مقدمتهم البابا.
وعلى أثر ذلك عزم الأشرف برسباي بتوجيه الضربة القاضية لقبرص، فأعد حملة ثالثة تستهدف إعادة إخضاع كامل جزيرة قبرص الى سلطة مصر كما كان الأمر في العصور السابقة.
ففتح برسباي باب الجهاد بعد أن تيقن ان الحرب القادمة لن تكون ضد قبرص وحدها، بل ضد أوروبا بالكامل، في ظل الحشد البابوي الرهيب والتحريض الغير مسبوق في عواصم أوروبا على مصر.
فتسابق المصريين على تسجيل أسمائهم لدى كتاب المماليك، والإحتشاد أمام السفن الراسية بساحل بولاق لحجز مكان عليها، استعدادا للتحرك نحو رشيد ودمياط، ومن ثم الإنطلاق نحو قبرص، فأبحرت مئة وثمانون سفينة من الأسكندرية.
ووصل الجيش المصري في أواخر شعبان829هـ/1426م الى ليماسول وتم هدم قلعتها بعد أن قتل كل القبارصة المتحصنين بها، ثم انقسم الجيش المصري إلى فرقتين واحدة برية بقيادة الأمير تغري بردي المحمودي، وأخرى بحرية بقيادة الأمير إينال الجكمي.
ثم جاء ملك قبرص جانوس على رأس جيش أوروبي ضخم جدا، ودارت أم المعارك بين مصر وجموع الأوروبيين، فسحقهم المصريون جميعا في موقعة “خيروكيتيا”، فلم يقف في طريق المصريون أحد إلا وانتهى أمره في الحال، حتى وصل الأشرف برسباي بجيشه الى قلب العاصمة نيقوسيا، وبنفس المكان الذي كان يحرض عليه جانوس وباباوات أوروبا على مصر، وقف برسباي بكنيسة نيقوسيا ليصلي الجمعة ويؤم خلفه جنوده.
ورفع المماليك راية دولتهم العظمى في قلب نيقوسيا معلنين بذلك سيطرتهم على كامل جزيرة قبرص، وإخضاعها من جديد لمصر، كي يكتب في شهر رمضان الذي شهد أغلب انتصارات الأمة المصرية انتصارا جديدا لها.
وعاد الجيش المصري للقاهرة في الثامن من شوال 829هـ/1426م، ومعهم أكثر من 3700 أسيرا على رأسهم ملك قبرص نفسه جانوس وأمراؤه، وكان في أنتظار الجيش جموع الشعب المصري لتحتفل به، فطاف الجيش كافة شوارع القاهرة وصوت التكبير والزغاريد تضجّ في كل مكان في مشهد مهيب لم تعيشه المحروسة من قبل.
وجائت الوفود من الاقطار العربية والإسلامية تهنئ المصريين بالنصر العظيم، وكان في مقدمتهم رسل كل من شريف مكة بركات بن عجلان، والسلطان العثماني مراد الثاني (والد السلطان محمد الفاتح)، والسلطان التونسي الحفصي أبو فارس عبد العزيز.
وبقلعة صلاح الدين الأيوبي بالقاهرة (مقر الحكم) أمر السلطان الأشرف بإُحضار الملك جانوس على حمار وهو مقيد بالسلاسل وإدخاله على بقية الأسرى القبارصة، فصرخوا من الدهشة وقاموا بإلقاء التراب على رؤوسهم من الحسرة، قبل أن يفدي الملك نفسه بعد أن قام بتقبيل قدم السلطان وموافقته على أن تتبع قبرص دولة المماليك العظمى، حتى أطلق السلطان الأشرف سراحه وأرجعه إلى بلاده مرغماً إياه على دفع جزية سنوية ضخمة لمصر مقابل استمرار تابعية قبرص لمصر.
كي تبقى قبرص ولاية تابعة للقاهرة حتى غزو العثمانيون لمصر في 26يناير1715م، وكي يلقب برسباي بسلطان البرين (مصر والشام) والبحرين (الأحمر والمتوسط) وكي تكون لمصر سلطة مطلقة في شرق المتوسط، وتكمل مسلسل تصدير الرعب لكل غازي تسول له نفسه غزو الشرق.
ثم تفرض مصر كامل سيطرتها العسكرية والاقتصادية أيضا، بعد ان سك برسباي “الدينار الأشرفي” ليكون أساس التعامل التجاري بين تجار مصر والشام وجنوب أوروبا بدلا من النقد الفلورانسي والبندقي.
وسيزداد إندهاشكم عندما تعلموا أن السلطان الأشرف برسباي بعد أن قضى ستة عشر عاما وثمانية أشهر في الحكم (توفى في 841هـ/1437م) توفى بمنزلة في مدينة سراقب السورية، خلال صد الجيش المصري هجمات التركمان على الشام.
وكأن برسباي في حياتة برهن لنا على أهمية شرق المتوسط لأمن مصر القومي، وفي مماته على أهمية الشام الإستراتيجية لمصر، ولكم أن تتخيلوا كم التضحيات التى قدمتها مصر والحروب التى خاضتها على مدار قرون سواء ضد السلاجقة والتتر والتركمان وسائر أمم أوروبا للحفاظ على استقلال الشام، ولحماية المقدسات بمكة والمدينة من عبث البرتغاليين.
ولأن كل غازي دخل مصر كان يسعى لمحو هويتها ومحو تاريخ ذلك البلد العظيم من ذاكرة شعبه، فبعد 361سنة من وفاة برسباي، سلب الغزاة الفرنسيين بقيادة نابليون 1798 خوذة ملك قبرص التي كانت معلقة على باب مسجد السلطان برسباي (بشارع المعز-القاهرة، والذي بناه بعد ان ندر بنائه وهو يصلي بمسجد السلطان قلاوون لو أتم له فتح قبرص)، وكذلك سرقة خوذة برسباي نفسه من داخل نفس المسجد، كي تبقى حتى يومنا هذا بمتحف اللوفر بباريس (قسم الفن الإسلامي غرفة B ، عرض 69(B.
فكل مستعمر جاء على مصر كان يقدم أولا على تدمير العنصر الأقوى في شخصية الأمة المصرية، وهو تاريخها، وهدم أعمدة هويتها العريقة، فان كان من التاريخ تتشكل العقيدة الوطنية للشعوب، فما أدرككم بالعقيدة الوطنية لمصر التي جائت ثم جاء من بعدها التاريخ.