رمضان كريم .. جملة سهلة لطيفة نرددها دائما بأريحية وتفاؤل ..ومع ذلك تلوكها الالسنة أكثر مما تسعى الى تحقيق معنى الكرم الرمضاني المنشود ودون نظر او تطلع نحو تجديد ايماني مطلوب وتقوية لأواصر مجتمع صالح متعاطف متراحم قادر على مواجهة الخطوب يشد بعضه ازر بعض بروح انسانية غايتها السمو والرقي في عالم مليء بعواصف وانواء لا تكاد تتوقف عن الهبوب.
رمضان وكرمه محطة ايمانية روحية استراتيجية بلغة العصر محطة لتعديل المسارات وشحن الهمم والطاقات واكتساب القوى الدافعة لعام كامل حتى ياتي رمضان جديد وانت لازلت عبدا ربانيا لم تفقد بوصلة القوة الروحية بعد ولم تنحرف الاتجاهات والتوجهات هنا او هناك.
لابد من الاعتراف ان لدينا مشكلة حقيقية مع رمضان كريم او كرم رمضان بمعنى ادق في الفهم الخاطئ او المعوج لمفهوم الكرم الرمضاني ومعنى الارتقاء الروحي والسمو الانساني وذلك بعد النجاح الساحق في تحويل رمضان الى محطة استهلاكية بامتياز وسقوط الكثيرين صرعى حمى الاستهلاك والانفاق بشره وفوق قدرة وطاقة الصائم مهما كان وضعه الاجتماعي وحالته الاقتصادية.
صرعة الاستهلاك كان لها الغلبة في الآونة الاخيرة وتحققت لها اليد الطولى بفضل عمليات الالحاح المستمر ليل نهار من قنوات عديدة وبرامج مستفزة واعلانات مريبة تتفنن في اشاعة فوضى الاستهلاك والتبذير والانفاق بلا وعي ودون حساب. تلقى بمزيد من النار على ثورة التطلعات والاحباطات على السواء. ليس فقط بسبب قنوات الطبخ الكثيرة والتي يطرح عددها المتزايد العديد من الاسئلة وعلامات الاستفهام حول جدواها في مجتمعات تعاني وفي ظل ظروف اقتصادية ضاغطة وأحيانا ساحقة ماحقة .. الغريب ان القنوات العادية لم تسلم من وباء اشاعة فاحشة الاستهلاك المزرى والمحبط والمخيب للآمال في رمضان وغير رمضان ؟
في ظل اجواء كهذه وعلى مدى سنوات لم يكن غريبا ان يترسخ في الاذهان ان رمضان لن يكون كريما الا بكل ما لذ وطاب من اطعمة مجتمعة المحمر والمشمر وما دونه وما فوقه والعزومات فوق الفاخرة التى تكشف عنها الاعلانات اياها وتفضحها مقاطع التيك توك وقنوات اليوتيوب بصور مزعجة ومرعبة عن الموائد وصنوف الاطعمة وكان الناس في سباق محموم ومباريات لشحن البطون وكأنهم لم يمر عليهم التوجيهات العلوية والتحذيرات من الاسراف والتبذير وضرورة الاعتدال والقصد في المأكل والمشرب او القاعدة النبوية الحكيمة بحسب ابن ادم لقيمات يقمن صلبه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”ما ملأ ابن آدم وعاء شرًّا من بطنه، حسب ابن آدم لقيمات يقمن بها صلبه، فإن كان فاعلًا لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفَسه”.وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا: “كلوا واشربوا وتصدقوا من غير مخيلة ولا ترف”.
اعجبني كثيرا صيحة التحذير التي أطلقها خبير اقتصادي وطالب فيها بضرورة تَنبيه المستهلك إلى مَسألة العروض التي تشجِّع على الشراء فوق الحاجة طوال الشهر الفضيل قال: “الاستهلاك في رمضان يزداد همجيَّةً مع المال والنعم وهو نوع من التخلُّف والعَبَث”.
واعتبر المختصون في علم النفس ان الإكثار من شِراء السلع الغذائية في رمضان بغير حاجة دلالة على وجود نوعٍ من الخلل النفسي المتوارث في الشخصية اذ يجب أن يَكتفي المسلم المتعبِّد الحقيقي بالقليل من الطعام والشراب.
من المؤسف ان قوائم الافطار والسحور أكثر شهرة وانتشارا وترويجا حتى ولو من باب الرياء الاجتماعي ولا يقابلها قوائم اخرى ثقافية او دينية للغذاء الروحي بالقدر نفسه من الاهتمام وهي القوائم المرجوة والمطلوبة في رمضان للتزود لرمضان وما بعد رمضان.
بالتأكيد ليس المطلوب حالة مخاصمة للترف والترفيه في المأكل والمشرب وغيرها في رمضان ولكن مطلوب حالة اعتدال وعقلانية ولا اظنني متجاوزا إذا قلت حالة من الاحترام والادب مع رمضان الضيف الكريم.
هناك فرق كبير جدا بين الكرم والجود والسخاء وبين التبذير والسفه في الانفاق على الطعام والشراب حتى ساد وبات معلوما ومشهورا ان أكثر من نصف الاطعمة مصيرها الى الزبالة وهو امر ليس معيبا فقط بل حرام من كل الوجوه الشرعية والدنيوية على السواء. فالكرم كما يقولون هو فضيلة بين رذيلتين.
واعتبر كثير من العلماء ان معاني الجود والكرم والسخاء والسماحة متقاربة وقد فرق بعضهم بينها بفروق فجعلوا الكرم: الإنفاق بطيب نفس فيما يعظم خطره ونفعه، وسموه أيضا جرأة وهو ضد النذالة على حد تعبير القاضي عياض رحمه الله.
كما فرقوا بين التبذير والإسراف فالتبذير يَعني: صرف الأموال في غير حقِّها إمَّا في المعاصي وإما في غير فائدة لعبًا وتساهلًا بالأموال، أمَّا الإسراف: فهو الزيادة في الطعام والشراب واللِّباس في غير حاجةٍ.
ليس معنى هذا دعوة للتقتير وعدم اطعام الطعام ولكن الفوضى هي المرفوضة وهي وراء الكوارث التي تعاني منها الامة في كل شيء..
هناك معالم على الطريق وقواعد للمنهج مريحة للجميع على صعيد الكرم الرمضاني وغيره: يتصدرها كلوا واشربوا ولا تسرفوا ليس باعتبار ان التبذير والإسراف ليس مشكلة اقتصادية ولكن لأنه من المعاصي والذنوب التي ذمها الله تعالى ونهى عنها بقوله:{ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} وقال سبحانه:{ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}.
ومن القواعد المهمة :ان الله طيب لا يقبل الا طيبا.. وان لا يأكل طعامك الا تقي.. وان يكون فعل الكرم بعيدا عن الخيلاء والرياء.
وايضا لا ننسى الحكمة اللقمانية والتي كان ينصح ابنَه بها: يا بني إذا امتلأتِ المعدة نامَت الفكرة وخرست الحِكمة وقعدَت الأعضاءُ عن العبادة.
**من جميل وبديع ما قرأت:
*أكرم الكرم حسن الخلق.
*أوَّل مَن سنَّ القِرَى إبراهيم الخليل عليه السَّلام.وأوَّل مَن هشم الثَّريد هاشمٌ. وأوَّل مَن فطَّر جيرانه على طعامه في الإسلام عبيد الله بن عبَّاس رضي الله عنهما وهو أوَّل مَن وضع موائده على الطَّريق وكان إذا خرج مِن بيته طعامٌ لا يعاود منه شيءٌ، فإن لم يجد مَن يأكله تركه على الطَّريق.
*قال عطاء: (ما رأيت مجلسًا قطُّ أَكْرَم مِن مجلس ابن عبَّاس، أكثر فقهًا وأعظم جَفْنَةً..إنَّ أصحاب القرآن عنده وأصحاب النَّحو عنده وأصحاب الشِّعر وأصحاب الفقه يسألونه كلُّهم، يصدرهم في وادٍ واسعٍ)
*قال الفاروق عمر رضي الله تعالى عنه :والله إني لو شئت لكنت من ألينكم لباسا وأطيبكم طعاما وأرَقِّكُم عيشا ولكني سمعت الله عز وجل عَيَّرَ قوما بأمر فعلوه فقال:(أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ).
*كان يوسف عليه السلام أمينًا على خَزائن الأرض وكان يُكثِر من الصِّيام، فسُئِل عن ذلك فقال: “أخاف أنْ أشبَع فأَنسى الجائع”.
كل عام وانتم بخير..والله المستعان..
Megahedkh@hotmail.com