قدمت الأسبوع الماضى نبذة أولية عن كتاب الدكتور محمد عبد الخالق عبد المولى بعنوان ” جهود المؤرخين المسيحيين فى مصر الإسلامية.. من القرن الأول إلى القرن السابع الهجرى”، وتوقفت عند الحديث عن أهمية الاطلاع على الرواية المسيحية للتاريخ من خلال المؤرخين المسيحيين، كى نستطيع أن نفهم موقف الكنيسة وأتباعها إزاء الوقائع التاريخية، ونقف على كثير من الحقائق التي لم تهتم الرواية الإسلامية بشرحها واستيعابها، إذ تبدو الرواية الكنسية متنفساً حقيقياً للتعبيرعما يخالج الكنيسة ورعاياها من العواطف والآراء نحو المجتمع الإسلامي، وحتى إذا حملت الرواية الكنسية هذه في بعض المواقف شيئا من المبالغة، فسوف تحتفظ مع ذلك بأهميتها وقيمتها في إيضاح كثير من المواقف التي تغفل عنها الرواية الإسلامية، أو ترى فيها آراء أخرى .
واليوم أكمل ما بقى من القضايا التى يحملها هذا الكتاب الفريد، حيث يقر المؤلف بأن أهمية الروايات الكنسية للتاريخ لا تقف عند الأزمنة الصعبة، التى يكثر فيها الاضطراب، ففي عصور السكينة والسلام أيضا تغدو الروايات الكنسية مصدراً قيماً لاستعراض الحوادث التي تعنى بها، ويبدو الكاتب المسيحى مؤرخاً لا غبار عليه، خاصة حين يتبسط في شرح الحوادث والشئون العامة، وذكر الكثير من الأخبار الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهي نواحٍ لها قيمتها وأهميتها في تاريخنا الإسلامي .
وإلى جانب ذلك فإن ” المصادر التاريخية المسيحية، وإن كانت تميل فى معظم الأحيان إلى أن تخص أخبار الكنيسة والمجتمع النصرانى بأعظم قسط من عنايتها، فإنها تعد دائماً مصدرا عظيم القيمة لتواريخ العصور التي عنيت بها، وتمتاز هذه المصادر بميزة خاصة، هي أنها تعنى عناية فائقة بتاريخ الدولة البيزنطية، وتفيض في تتبع أخبارها وعلاقاتها بالأمم الإسلامية إفاضة دقيقة ممتعة، وهذه ناحية لم تخصها الرواية الإسلامية دائماً بما يجب من عناية، بل تعتمد غالباً في تناولها على هذه الروايات النصرانية ” .
مثال ذلك: أن ابن خلدون يعتمد على ابن العميد في معظم ما كتبه عن أخبار الدولة الرومانية والدولة الشرقية (البيزنطية)، ويرجع السر في ذلك إلى أن أغلب الكتاب النصارى كانوا يعرفون السريانية واليونانية واللاتينية أحياناً، ومن ثم كان اتصالهم بالمراجع الأجنبية وثيقاً وانتفاعهم بها واضحاً .
ويؤكد الدكتور محمد عبد الخالق أن لهؤلاء المؤرخين المسيحيين إسهامات كثيرة في مجالات الحياة العلمية والثقافية في مصر الإسلامية في هذه الفترة، حيث تميزوا بسعة العلم وغزارة المعرفة إلى جانب توخيهم الدقة في ذكر الكثير من الأخبار والحوادث، معتمدين في الغالب الأعم على المشاهدة العينية لبعض الأحداث، أو السماع من الرواة المعاصرين للأحداث، أو على ما تضمه الأديرة من السير والتراجم التي كثيراً ما تتضمن إشارات إلى أخبار مصر وما يجري فيها من أحداث .
وبصفة عامة فإن دراسة التراث العربي المسيحي، وخاصة التاريخي منه، تجعلنا نقف على دور المسيحيين في بناء الحضارة العربية، لاسيما في أهم مراحلها، أي في العصر العباسي، فالحضارة العربية ليست حضارة إسلامية خالصة، رغم أن الطابع الإسلامي غالب عليها، ومن هنا يمكن القول أن الحضارة العربية انفتحت على حضارات مختلفة وتأثرت بها وتفاعلت معها، وعلى رأسها الحضارة المسيحية، وهذا ما يرفع من شأن الحضارة العربية، بخلاف الحضارة الأوربية التي انحصرت على حضارة دينية واحدة، وهذا ما جعل المسيحيين يعتزون بعروبتهم، ويفتخرون بتراثهم العربي الذى أسهموا فيه، فلا ينظرون إلى الغرب على أنه الفردوس المنشود، بل ينظرون إلى شرقهم العربي، الذى هم جزء أصيل فيه .
يقول المؤلف : إن كل مجتمع بشري ناهض يقوم على قاعدتين: التأصيل والتفتح ـ يقصد الانفتاح ـ فالتأصيل يضمن استمرارية هذا المجتمع، ويحافظ عليه خالصاً من الانحراف والضياع الذاتي، والتفتح يضمن له التجدد المستمر والصلة بالعالم الخارجي، والمجتمع الناهض هو الذي يحافظ على التوازن بين هاتين النزعتين، وهو ما حدث في العصر العباسي الأول، فقد قام المسيحيون في هذا العصر بدورمهم للانفتاح على الحضارات الأخرى (اليونانية والسريانية ).
وهكذا نرى أن الروايات المسيحية العربية فضلاً عن قيمتها وأهميتها الخاصة في سرد أخبار الكنيسة والمجتمع المسيحى، وشرح مواقفهما في مختلف العصور والمناسبات، فإنها تلقي ضوءاً على كثير من العلاقات بين الشرق والغرب، بين المسيحية والإسلام، وهي من هذا الجانب جديرة بالدرس والمراجعة .
ينقسم كتاب ” جهود المؤرخين المسيحيين ” إلى ثمانية فصول وخاتمة، يعالج الفصل الأول المنابع الأولى لمدرسة مصر التاريخية المسيحية، ويدور الفصل الثاني حول المؤرخ المسيحي يوحنا النقيوسي، وفي الفصل الثالث ترجمة لحياة المؤرخ سعيد بن بطريق وتعريف بأهم مؤلفاته، ويأتي الفصل الرابع بعنوان “مؤرخو بطاركة الكنيسة المصرية “، ويدور الفصل الخامس حول ابن مماتي من حيث نسبه وأسرته وسماته الشخصية وتعريف بكتابه ” قوانين الدواوين “.
أما الفصل السادس فيتناول أبو المكارم بن جرجس وكتابه ” تاريخ الكنائس والأديرة “، فيما يترجم الفصل السابع لحياة أبو شاكر بن الراهب وتاريخه العام ، ثم يأتى الفصل الثامن والأخيرعن المكين جرجس بن العميد وكتابه ” تاريخ المسلمين” .
بقيت إشارة واجبة إلى أن هذا الكتاب القيم صادرعن الهيئة العامة للكتاب برئاسة هيثم الحاج على، ضمن سلسلة ” تاريخ المصريين ” التى يرأس تحريرها الدكتور محمد صابر عرب وزير الثقافة الأسبق، وهى سلسلة تعنى بنشر المؤلفات التاريخية القيمة، الملتزمة بقواعد البحث العلمي وتقاليد الكتابة الأصيلة الموثقة عن مصر والمصريين، ولا تهتم بتاريخ الحكام والأنظمة السياسية والنخب فحسب، وإنما تركز أيضا على تاريخ الشعوب وقضاياها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية في جميع عصور التاريخ، القديم والوسيط والحديث والمعاصر .