رغم معرفتنا بأنه ملك دستورى، يملك ولا يحكم، ورغم إدراكنا بأن طبيعة الحكم فى بريطانيا لا تسمح للعائلة المالكة بأن يكون لها رأى واضح ومعلن فى معظم القضايا السياسية، فإن صعود الملك تشارلز الثالث إلى العرش بعد وفاة والدته الملكة إليزابيث الثانية حمل نسائم من الارتياح والتفاؤل إلى وطننا العربى وعالمنا الإسلامى، وذلك بالنظر إلى أن الملك الجديد معروف عنه منذ كان وليا للعهد ولعه الشديد بالثقافة العربية، وشغفه بفكرة حوار الأديان، وانفتاحه على الإسلام من باب التعرف على الآخر، حتى وصل به الأمر إلى معارضته العلنية لمشاركة بريطانيا فى غزو العراق عام 2003، مما كان سببا فى خلافه مع تونى بلير رئيس وزراء بريطانيا فى ذلك الحين .
من هذه الزاوية فقط نحن نتطلع، كعرب وكمسلمين، إلى أن يلعب الملك الجديد دورا بارزا، ولو على المستويات الشعبية غير الحكومية، من أجل تقريب وجهات النظر وتحقيق التفاهم وبناء الجسور بين أصحاب الديانات والثقافات المختلفة، وهو بالتأكيد يستطيع أن يفعل ذلك، من خلال الأنشطة والفعاليات الملكية التى يكون عادة هو نجمها، والمؤتمرات والندوات والمحاضرات التى يشارك فيها، وهذه إحدى أذرع القوى الناعمة للملكيات الدستورية، التى تساهم بها فى صناعة رأى عام مستنير ومتفتح، فى زمن يشهد كل يوم زيادة فى نفوذ اليمين المتطرف، المنغلق على نفسه، الغارق فى الشيفونية الأوروبية، والمتعصب للجنس الأبيض .
ومنذ اليوم الأول لتنصيب الملك تشارلز الثالث فى مراسم تاريخية قدمت الصحف ووسائل الإعلام البريطانية تقارير عدة عن سيرته الذاتية وسماته الشخصية، ومن أبرز ماجاء فى هذه التقارير أنه معروف بافتتانه بالمنطقة العربية وتاريخها، وفهمه لقضاياها، وهو ما قد يكون ذا أثر إيجابى على العلاقات بين بريطانيا والبلدان العربية، شعوبا وحكومات، خلال فترة اعتلائه العرش .
وبعيدا عن ماضى بريطانيا السيئ فى بلادنا، والدور الإجرامى الذى لعبته فى غرس الكيان الصهيونى، وتورطها فى كثير من مشاكلنا المستعصية حتى اليوم، فإنه مما يذكر للملك تشارلز اهتمامه منذ عقود بالتعرف على الثقافة العربية والفن الإسلامى، حتى قيل إنه سعى إلى تعلم اللغة العربية لفترة طويلة، وقرأ القرآن الكريم، ولم ينقطع عن زياراته للمنطقة العربية، والتعبير عن عشقه لتاريخها، وكان دائم الحرص على أن تلتقط له صور وهو يزور متاحف الفن الإسلامى، وأيضا وهو يرتدى الزى العربى التقليدى، ويرقص رقصة العارضة الشهيرة مع العديد من الأمراء فى السعودية .
وفى العام الماضى اختار الملك تشارلز ـ وهو ولى للعهد ـ أن تكون زيارته الأولى بعد انقشاع أزمة كورونا إلى مصر والأردن، حيث زار مع عقيلته الجامع الأزهر، بصحبة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، وألقى كلمة فى جامعة الأزهر قال فيها : ” أؤمن من عميق قلبى بأنه يتعين على كل الرجال والنساء، المسئولين فى هذا العالم، أن يعملوا على استعادة الاحترام المتبادل بين الأديان، وأن علينا أن نبذل كل مافى وسعنا لإنهاء حالة انعدام الثقة التى تسمم حياة الكثيرين”.
ونقلت صحيفة الجارديان البريطانية مقتطفات من مقابلة أجراها راديو 2 بـ ” البى بى سى ” مع الأمير تشارلز عام 2015 قال فيها : ” إننى أفضل أن ينظر إلي كمدافع عن الإيمان ( الإنجليكانى)، وأننى أدافع أيضا عن حرية أصحاب المعتقدات الآخرين فى هذه البلاد فى العبادة، ويبدو لى دائما أنه يمكنك فى نفس الوقت الذى تعمل فيه على الدفاع عن الإيمان أن تكون حاميا لكل الأديان “.
وهذا بالضبط ما يحتاجه عالمنا فى الألفية الثالثة، التى تشهد استقطابا حادا بين الشرق والغرب، وتكثر فيه دعوات صراع الحضارات والهويات والثقافات والأديان، ويتمترس كل فريق فى خندقه مسلحا بأفكار التفوق العرقى والاستعلاء الدينى، وتتناسل الكراهية فى الأجيال المتعاقبة بمعلات أسرع مما كانت عليه فى الماضى، وتأتى الانتخابات بحكومات عنصرية متطرفة، لتنفيذ سياسات معادية لمفاهيم السلم والأمن الدوليين .