في الحي كل ظهيرة كان يمر بائع متجول ينادي بصوت مبحوح (أبيع بداية جديدة لهؤلاء الذين أتلفوا حياتهم وابتلعوا عظام سمكة)
كل ظهيرة كانت تهرع لتشتري منه بداية جديدة؛ فهي مثل كثير من الحمقى قطعت عقودها بين الغفلة وسوء الطالع.
كانت تحمل اناءها بيد وتجر سنواتها التالفة باليد الأخرى.
وفي كل مرة كانت تصل إليه متاخرة بمقدار خيبة ونصف وقد نفدت صرته من كل البدايات الجديدة.
أصبحت زبونة دائمة لديه.
أقصد الزبونة التي تمكث في آخر الطابور الطويل.
صار يعرفها من تلك الابتسامة الجليدية التي تلتصق على وجهها،وعباءتها الكالحة تكنس غبار الشوارع من خلفها.
وفي كل مرة كان يواسيها هامسا لها (لاتيأسي ياأبنتي ففي الغد سأحضر معي كثير من البدايات عل واحدة منها تحط في إنائك)
حدث هذا منذ ألف سنة ونيف ،ثم ورث ابن البائع المتجول صرة أبيه.
تبدل سكان الحي وولدت الكلاب السائبة سلالة جديدة لالون لها.
صار لون القمر زهريا بفعل قصص الحب التي ازدحم بها الحي ، ومازالت تصل متأخرة بحماقة ونصف،
أو بسوء طالع وإناء شارف على التهشم.
حتى أنقذها الأرق من نومها الطويل ذات صباح فهرعت تعض إنائها الخاوي بين أسنانها مبكرة ذات غبش ضبابي ،كانت تحدث نفسها بأنها ستكون الأولى في طابور اليوم وستحصل على بداية جديدة فرصة لحياة لايجثم فيها الكلب الأسود على صدرها .
انتصف النهار ومرت الظهيرة احرقت الشمس عينيها ،اصطبغ الأفق بدماء الشمس الذبيحة، ولم يظهر بائع البدايات.
مرت عليها السنوات وتعاقبت عليها الفصول وهي تبكر كل يوم لتقف في طابور بائع البدايات.
لبست المدينة ثوبا جديدا ،أحاطوا جسدها المتحجر بسور مذهب تنمو من حوله الأزهار وعلى جانبيه تتموج المياه.
اصبحت تمثالا يزين النافورة في حديقة الحي بينما لاأحد يعلم بأنها ماتزال على قيد الحياة.
فجسدها من الجبس الأبيض الذي يصنعون منه التماثيل وعينيها من زجاج بلوري واحدى ذراعيها ممتدة تحمل إناء فارغا زرعوا فيه أزهار النرجس.
وفي كل ظهيرة كانت تسمع صيحات أطفال الحي وهم يلهون حول جسدها المتحجر ويتراشقون بالمياه ، وعند كل غروب كان يتكئ على ظهرها الكلسي عاشقان يقطف كل منهما زهرة من إنائها ويهديها للآخر هامسا في أذنه (هذه زهرة من امرأة عاشت كل يوم بداية جديدة ،لم تذق ملح الدموع ولم تتلف سنواتها الخيبة، فلتباركنا وتهبنا من سعادتها هكذا يقولون أجدادنا في الحي).
من كتابي (اصوات من الجانب الآخر)
مؤسسة ابجد للنشر والترجمة والتوزيع
منشورات امارجي شارع المتنبي بناية المصرف الطابق الأول