مازلت (أقتات) على عذوبة تلك السنوات التي رحلت وتركت الجمر من خلفها،
يومها تغلغل صوت (ضوة ولاياتنا)عبر مسامات جلدي ،احببت صوته وصوت (ياحريمة)ويا(طيور الطايرة مري بهلي) حيث كان يصدح في أرجاء منزلنا المتواضع تحت خيمة (أبي)..
عشرة سنوات فقط، هي كل ماعشته من عمر..
من ال ٧٠ إلى ال ٨٠ ..
ثم مت بعدها ولم أزل ميتة..
في تلك العشرة سنوات كان نسيم بغداد منعشا، الشتاء كان باردا والصيف حارا، أنا لاأمزح ، حقا لأن الشتاء الآن دافئا والصيف حارقا..
كانت موجات دجلة تضحك ، ونظرة واحدة إلى وجه أبي ال(عليل) كافية لتشعرني بالحياة..
في ال ٨٠ تحديدا غادر (ضوة ولاياتنا) حيث بلاد الثلوج إلى غير رجعة، وتسمم نسيم بغداد برائحة الدم والبارود، وفي نفس العام غادرنا أبي وغادر معه عطر (الرازقي والقداح) من شوارع بغداد فلم نعد نشم سوى رائحة الحروب..
أمانان غادراني ولم يعودا أبدا..
أبي وعراق بلا احزان..
أذكر يوم أول بث إذاعي لأغنية عبد الحليم(فاتت جنبنا) كان أبي يلصق المذياع الصغير على خده الأسمر ويترقب نهاية تلك الحيرة (واعرف منين انها قصداني أنا مش هوا) ..ثم يضحك في نهايتها كضحكة حليم المنتصرة على المسرح وهو يلقي للجمهور بسر الملحمة(وجاني الرد جاني …وقالتي أنا من الأول بضحكلك ياسمراني) بعد ان كان حليم خائفا متوجسا من ان لايفهم الجمهور تلك الأغنية الملغزة فكانت ضحكته صادقة جدا حين تعالى التصفيق عندما حل لهم حليم اللغز..
أعشق السبعينات فقط لأنني لم أعش بعدها..
فما بعدها حرب وبنادق وضياع وأغنيات لم يمسسها ملح الفرات ولا طعم (حاسبينك)..
لاأختزن الذكريات..لاذكريات لي من بعد ال ٨٠ سوى الفراغ. ..
الفراغ المزدحم بالتيه والوجوه المقنعة فلاأذكر ملامحها الحقيقية..
مكتظة ذاكرتي من بعد الثمانين بنسيم صار مغبرا وبغداد لم يعد (يغسل وجهها القمر) فأهرب منها بالزهايمر مبكرا جدا..
يقول صلاح عبد الغفور (ادور بين الوجوه على الوجه الأحبه/لكيت الورد مكطوف وذبلانة المحبة)..
أين وجه أبي، أين وجه بغدادي، وأين (ضوعها العطر)..
يحدث أحيانا أنك تعيش ألف عام، تتنفس بلا رئة، تبتسم بلاشفاه، تنزف دما خاثرا توقف عن الجريان في عروقك منذ عقود خلت..