رغم كل المآسي التي يعيشها إخواننا الفلسطينيون، من قصف وتهجير وتجويع وإبادة، إلا أن غزة في النهاية ستنتصر، بل انتصرت فعلا بشهادة الأعداء، الذين يقومون بتحليل يومي لسير الحرب وانعكاساتها، ويدركون جيدا ماذا يعنى صمود المقاومة المحاصرة تحت الأرض لأكثر من خمسة أشهر، في مواجهة جيش مسلح بأحدث الأسلحة، ووراءه خطوط إمداد مفتوحة بلا حدود من أعتى دول العالم.
نشر موقع شبكة (بي بي سي) البريطانية الجمعة الماضية اعترافا للمحلل الاستراتيجي الأمريكى جو تروزمان، المعروف بتأييده لإسرائيل، قال فيه إن رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو فشل حتى الآن في تحقيق هدفين رئيسين؛ استئصال حماس وإنقاذ الأسرى، كما أن الجيش الإسرائيلى أخفق في قتل رئيس المكتب السياسي لحماس يحيى السنوار، أو أعضاء الدائرة المقربة منه، أما الشيء الوحيد الذي نجح فيه فهو دفع المقاومة إلى التركيز على القوات الإسرائيلية داخل غزة، وخفض عدد الصواريخ التى تطلقها على المستوطنات المحيطة، لكن الوقت ليس في صالح تل أبيب، فكلما صمدت المقاومة لفترة أطول أصبح من الصعب على إسرائيل تحقيق أهدافها”.
ونقلت صحيفة (هاآرتس) الإسرائيلية عن أعضاء فى المجلس الوزاري المصغر للشئون الأمنية والعسكرية في إسرائيل أن الجيش لم يحقق حتى الآن أيا من أهداف الحرب، وأن قدرات المقاومة العسكرية والمدنية لاتزال قائمة وتؤدي وظائفها، وقادتها أحياء، وغالبية الأنفاق لم تهدم بعد، وما زال في يد المقاومة أكثر من نصف الأسرى الإسرائيليين، وما زالت المقاومة هي من يسيطر على غزة، وهي صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة بشأن المفاوضات، وأي كلام عن نزع سلاحها أو كسر شوكتها غير صحيح.
وفي مقطع مصور على (يوتيوب) يقول العقيد الأمريكى المتقاعد لورانس ويلكرسون: ” الإسرئيليون كذابون مزمنون، لا أصدق كلمة واحدة تصدر عنهم، ولا أصدق أبدا الأرقام التى يعلنونها، لقد كنت في الحكومة لفترة طويلة جدا بحيث أدرك أن الإسرائيليين يكذبون بشكل سافر في محيطهم الاستخباراتي، وفي محيطهم الدعائى، وفي قياداتهم، لذلك لا مجال لتصديق أي شيء يقولونه، إنها دعاية بالكامل”.
وفي حين نشفق جميعا على غزة، كيف سيكون صيام أهلها في رمضان، ينظر المتحدث باسم الجيش الإسرائيلى دانيال هاجاري للأمر بعين مترقبة، تخشى من رمزية الشهر الكريم، ومن اجتماع المسلمين بالمساجد، ومن طاقة الحماسة واليقين التى يبثها فى نفوس الصائمين، الذين يجعلون منه شهرا للإصرار وشحذ الهمم، وليس للخمول والاستكانة والأكل والنوم، وقد كان رمضان في تاريخ الإسلام شهرا للانتصارات الكبرى؛ ففيه كانت غزوة بدر وفتوحات مكة والقادسية والأندلس، والانتصار الوحيد للعرب على إسرائيل كان فى رمضان/ أكتوبر 1973.
يقول هاجاري في بيانه الرمضاني المخادع: “سنفعل مافي وسعنا ليكون رمضان سلميا وهادئا فى المسجد الأقصى وجميع الأماكن المقدسة، ونضمن حرية العبادة خلال الشهر الكريم، ويجب أن نحافظ معا على حق الجيران، ونعيش في سلام جنبا إلى جنب، ونرفض دعوات المخربين والإرهابيين، الذين ينتظرون رمضان ليعلنوا فيه الجهاد والقتل، ويعتدون على جيرانهم”.
لكن إسرائيل لم تغير شيئا من إجرامها في رمضان، فما زالت تمنع المصلين من المسجد الأقصى، وتقيم المتاريس والحواجز حوله، وتعتدي على المرابطين والمرابطات فيه، ومازالت تقصف المصلين بالعراء في غزة، بعد أن دمرت لهم أكثر من ألف مسجد، وما زالت تهدد بشن الهجوم البري على رفح للقضاء على ما تبقى من المقاومة.
وبينما تعاني إسرائيل حالة غير مسبوقة من الانقسام بسبب أزمة الأسرى، والاتهامات الموجهة لقادة الجيش بالفشل المتكرر، والخلافات العلنية بين أحزاب الائتلاف الحكومي، واتهامات الفساد التى تلاحق نتنياهو وزوجته، فإن الجبهة الفلسطينية ظلت قوية متماسكة، رغم التحريض الدائم على المقاومة، والتشكيك في أهدافها وإنجازاتها، وظل أداء المقاومة في أعلى درجات اللياقة، سواء في ميدان الحرب أوعلى طاولة المفاوضات، ولأول مرة تواجه إسرائيل قوة فلسطينية تحارب بشجاعة وذكاء، بينما يتهرب الشباب الإسرائيلى من التجنيد، ويفر من المعركة إلى خارج إسرائيل، أو إلى مستشفيات العلاج النفسي، ويهدد الحاخام الشرقي الأكبر بأن جميع اليهود المتدينين (الحريديم) يمكن أن يرحلوا عن إسرائيل إذا فرض عليهم التجنيد العسكري.
ولا وجه للمقارنة بين المتدينين الفلسطينيين الذين يتسابقون للانخراط في المقاومة، ليضحوا بأرواحهم ويفوزوا بالشهادة، والمتدينين اليهود الذين يرفضون التجنيد، ويزعمون أن دورهم يقتصر على بركة الدعاء، فالجيش الصهيونى ينتصر بفضل دعائهم، على حد قول الحاخام نفسه.
لقد لجأت حكومة نتياهو إلى وضع القانون الجديد لتجنيد المتدينين إجباريا بعد أن أعطى الجيش الإسرائيلي إشارات على أن الشباب لم يعد قادرا على حمل السلاح، وأعداد القتلى في غزة ارتفعت بمعدلات مخيفة، والجنود فقدوا القدرة والعزيمة، والمرتزقة اليهود القادمين من أوروبا وأمريكا بدأوا يهربون، وصار يخشى على الجيش من قلة العدد على المدى المتوسط والبعيد، لذلك لم يعد هناك مفر من تجنيد المتدينين، خريجي المدارس الدينية اليهودية، لكن هؤلاء المتدينين أظهروا أنهم أشد خوفا ورعبا من الآخرين، وأنهم غير مستعدين للتضحية.
وربما لهذا السبب، شعرت الإدارة الأمريكية أن إسرائيل في خطر، وتحتاج إلى رسالة دعم جديدة، فانبرى الرئيس الأمريكي جو بايدن يعلن أنه لايوجد خط أحمر تجاه إسرائيل، وأنه لن يوقف عنها السلاح ولن يتخلى عنها أبدا، ومع ذلك سوف تظل المشكلة التى تؤرق بايدن قائمة، فالسلاح الذي بيد إسرائيل لن يستطيع أن يحسم الحرب، لأنه سلاح من حديد، في مواجهة نوعية من البشر مختلفة، هو يرسل أحدث الأسلحة لإسرائيل، والله يرسل المدد إلى المقاومة، حتى يتعجب خبراء الاستراتيجيات من صمودها إلى اليوم.