البحث في تميز وتفرد المدرسة المصرية قي تلاوة القران الكريم لا يتوقف والتنقيب عن اسرارها المدهشة يشغل بال الكثيرين من المتخصصين او غيرهم.. وذهب كل فريق في اتجاه معددا المزايا والامتيازات والمنح القرانية املا في الوصول الى قواعد شافية ومحددات واضحة ووضع علامات على سلم الارتقاء بالاداء القراني طمعا في تحقيق امل وبلوغ غاية على طريق الوصال والاتصال..
النجاح الكبير الذي حققه اساطين القراء في مدرسة التلاوة كان مدهشا ومعجزا ومحيرا للاخرين وكان اقصى جهدهم اما التقليد واما البحث عن طريق فضربوا على غير هدى فتاهوا وضلوا حتى عن العلامات ووقعوا في المحظور وابتدعوا الاتهامات من هنا وهناك..
لابد من الاعتراف بان جهودا كبيرة بذلت للبحث عن الاسرار ومعرفة الاسباب منذ زمن بعيد حتى انهم كانوا يتتبعون الحياة الخاصة والشخصية للقارئ الامام وماذا يفعل كيف يتصرف كيف يعيش ماذا ياكل وماذا يشرب ماذا ياخذ وماذا يدع والساحة شاسعة والاقاويل اكبر واكثر تقترب حد ما قال مالك في الخمر.. وفي الاشارة ما يغني عن العبارة..
اجتهد البعض في الوصول الى معاملات ارتباط موسيقية واجادة لفنونها العالمية ليس فقط استماعا بل واداء ايضا وقالوا ان كبار القراء من اشد المستمعين للموسيقيين العالميين وخاصة اصحاب السيمفونيات الشهيرة مثل بيتهوفن وموزارت وغيرهم..
ووصل الامر الى دراسة الاداء النغمي في القراءات للعديد من المشايخ ومدى عشقهم للموسيقى وتم نحت او صك مصطلحات خاصة بكبار القراء وطريقتهم في الاداء والتلاوة مقتبسة من المجال الموسيقى من قبيل المقام القراني والموسيقى القرانية وما قيل عن محاولات فك طلاسم هذه الشفرة المباركة..وشارك في العملية كبار الملحنين والمطربين والادباء ايضا..ومنهم سيدة الغناء العربي ام كلثوم وموسيقار الاجيال د. محمد عبد الوهاب والذي وصف الشيخ محمود الطبلاوي بانه صاحب النغمة المستحيلة..
وقالوا عن الشيخ مصطفى اسماعيل بانه مبدع قفلات وانه كان مهتما بفكرة المقامات.. كما وصفوا الشيخ البهتيمي بانه صاحب الجوابات الانتحارية وانه كان يمتلك حنجرة فولاذية مكنته من يمتلك طبقة صوتية فريدة حتى قالوا عنه لو قرأ كثير من القراء بطبقة صوت البهتيمي لاهلكت اصواتهم..
اما الشيخ محمد رفعت فهو حكاية الحكايات واسطورة الاساطير في القراءة فوصفوه بانه سيمفونية القران الكريم.
والحقيقة التى لا يجب الا نغفلها ان كبار القراء في الجيل القديم كانوا يجمعون بين التلاوة والانشاد الديني ويحفظون الموشحات ويتابعون ما يحدث على الصعيد الموسيقى من تطورات .ويكفي للدلالة على ذلك بمسيرة الشیخ على محمود أحد أشهر أعلام مصر قارئاً ومنشداً ومطرباً والذي أصبح قارئ مسجد الإمام الحسین رضي الله عنه الأساسى وبلغ من عبقریته أنه كان یؤذن للجمعة فى الحسین كل أسبوع أذاناً على مقام موسیقى لا یكرره إلا بعد سنة كما صار منشد مصر الأول الذى لا یعلى علیه فى تطویروابتكار الأسالیب والأنغام وينسبون اليه الفضل في اكتشاف أشهر النوابغ ومنهم القارئ العملاق الشيخ محمد رفعت الذي استمع إليه الشيخ سنة 1918م وتنبأ له بمستقبل باهر.
والحكايات كثيرة لا تتوقف ..
ربما يطرح البعض سؤالا: وما الجديد الان ؟!
الجواب ببساطة :فقد استوقفنى ما قاله احد كبار الحفاظ والقراء للقران الكريم المشهورين واحد المحكمين في المسابقات العالمية للقران الكريم وهو الشيخ الدكتور عبدالرشيد صوفي ساله مذيع سوداني على احدى الفضائيات عن سر تميز المدرسة المصرية ولماذا لم يتأثر هو شخصيا بالطريقة المصرية التى يحبها رغم انه خريج المدرسة المصرية ؟
الشيخ صوفي هو ابن مفتى الصومال وهو اصلا من كبار الحفظة والمعلمين للقران بالقراءات في منطقة القرن الافريقي..وارسل ابنه عبدالرشيد الى مصر ليكمل تعلم القراءات العشر وبالفعل التحق بمعهد القراءات في الخازندارة بشبرا وقضى في مصر عشر سنوات للدراسة..
قال الشيخ صوفي ان المدرسة المصرية متميزة وان المصريين لهم قدرة كبيرة على الابداع في التلاوة لم يصل اليها احد في المنطقة العربية عموما سواء في الخليج او المغرب او حتى في السودان والصومال ولم يستطع احد ان يجاريهم..
فقال المذيع السوداني هناك كثيرون يقلدون اصوات الكبار من القراء المصريين..حتى انا استطيع ذلك واخذ يقرأ سورة الفاتحة مقلدا..
فضحك الشيخ صوفي وقال له كلنا يستطيع فعل ذلك لكن ماذا تفعل عندما تدخل في العميق؟!
فسأل المذيع السوداني متعجبا: تفتكر “شنو السبب” اي ما السبب ؟!
نظر الشيخ صوفي متعجبا ومتأملا وقال :اكيد المسألة ربانية اكيد لها علاقة بالحنجرة.. خلق الله لهم حنجرة خاصة غير.. بدليل اذا نظرت حولك حتى في السودان لم يخرج لنا احد مثلهم رغم القرب والجوار وكذا الامر في الصومال ولا في اي دولة عربية اخرى !!
لفت انتباهي بشدة كلام الشيخ صوفي وهوعالم في القراءات وقلت هل يمتلك المصريون حنجرة خاصة بهم فعلا لها مواصفات خلقية تمكنهم من الابداع في الاداء القراني؟ وكانت وراء نجتحهم في ان يهدوا العالم تلك الذخائر والكنوز القرانية النادرة فعلا والمبهرة دائما سواء من جانب القراء العظام في الرعيل الاول والاعضاء الجدد الذين يملأون الساحة الان ابداعا في كل بلاد العالم وينالون اعجاب العالمين مسلمين وغير مسلمين؟!.
الامر يدعو للتأمل الجاد والبحث العلمي ايضا على اعتبار ان الحنجرة هي صندوق الصوت وأنها العضو المسئول عن الكلام عن طريق اهتزاز الأحبال الصوتية.. وكما يقول اهل الاختصاص فان الحنجرة تتكون من هيكل من الغضاريف والعضلات ويوجد داخلها الأحبال الصوتية وهما حبلان اثنان فقط.والحبل الصوتى يشبه عود الثقاب العادى..واوضحوا ان اختلاف نوع الصوت بين كل البشر يعتمد على قوة وشد الغضاريف والعضلات التى تعمل وتسيطر على الأحبال الصوتية بالإضافة إلى سمك الحبل الصوتى نفسه وعلى حجم الحنجرة نفسها..فعلى سبيل المثال يتميز الرجل عن المرأة بحنجرة أكبر وعضلات حنجرية أقوى وحبل صوتى أكثر سماكة، وهذا الذى يؤدى إلى الاختلاف بين صوت الرجل والمرأة..
للاسف الشديد لم تتوفر لي ولم اعثر على دراسة علمية مقارنة عن خصائص ومميزات الحنجرة لدى المصريين واختلاقها عن غيرهم ولم اعثر على دراسات تحليلية للظاهرة الخاصة بقراء القران الكريم رغم وجود دراسات في الفن والغناء تحديدا وهوماحدث مثلا مع السيدة ام كلثوم.. اذ يتحدث النقاد والمؤرخون الموسيقيون عن دقة وقوة حنجرة ام كلثوم والتى كشفت عنها واكدتها تجربة علمية أقيمت في القاهرة سنة 1975 على آلات الكترونية لقياس مدى النظافة والنشاز في الأصوات الغنائية المصرية المعروفة وكانت النتيجة مذهلة. فبعد قياس الكثير من أغنياتها (منذ بدايتها حتى اعتزالها) تبين أن نسبة “نشاز” صوت أم كلثوم لا يتعدى في أقصى حالاته نسبة واحد في الألف من البعد الطنيني الكامل.وأن الدقة في حنجرة أم كلثوم تصل حد الإعجاز البشري بالمعنى العلمي للكلمة.ويقولون انها كانت تتمتع بجهاز صوتي ضخم وأن حبال أوتارها الصوتية كانت ذات تكوين قوي بدليل تحملها الغناء لساعات مطولة تفوق الوقت العادي للغناء عند سائر المغنين في الشرق والغرب وبدليل امتداد جهد أم كلثوم الغنائي على ستين عاما ونيف.
في الوقت نفسه يدلل البعض على ان ام كلثوم كانت تمتلك حنجرة خاصة بما رواه ابن الدكتور حسن الحفناوي (زوج أم كلثوم) أنه رافقها في إحدى رحلاتها العلاجية للخارج واستمع إلى دهشة الأطباء من الحجم الاستثنائي لحنجرة أم كلثوم وتركيب أوتار هذه الحنجرة.!!
تجدر الاشارة هنا الى ان ام كلثوم بدأت قارئة للقران الكريم في بداية شهرتها ومسيرتها الغناء..
** وصف الروائي الراحل خيري شلبي صوت الشيخ محمد رفعت بأنه سيمفونية القرآن والتفسير الموسيقي له وأنه تفسير عبقري فذ يضيء المفردات بمجرد نطقها ثم يعيد فيلمّ المفردات كلها في جملة نغمية تتضمن جوهر المعنى الكلي للجملة القرآنية ليتحول المعنى إلى نشيد وجداني يرفرف عليه علم السماء.
** سئل العلامة الشيخ محمد متولى الشعراوى عن رأيه فى أصوات الشيخ محمود خليل الحصرى والشيخ عبدالباسط عبدالصمد والشيخ مصطفى إسماعيل والشيخ محمد رفعت.. فقال: إن أردنا أحكام التلاوة فالحصرى، وإن أردنا حلاوة الصوت فعبدالباسط عبدالصمد، وإن أردنا النفس الطويل مع العذوبة فمصطفى إسماعيل، وإن أردنا هؤلاء جميعاً فهو محمد رفعت.
: قال رجل لأبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه: أوصني يا أبا سعيد، قال: عليك بذكر الله، وتلاوة القرآن، فإنها روحك في السماء، وذكرك في أهل الأرض.
..وبعد فالحنجرة القرانية هبة الاله لمصر واهلها.. مكنت المصريين من ان يرتقوا مع الاداء القراني الى عنان السماء وان ينقلوا كل سامع لايات القران الى عالم اخر من الرقي والمتعة والمشاعر والاحاسيس الايمانية الرفيعة التى يبحث عنها اهل الصفاء والنقاء والمتطلعون دائما الى عوالم الحب والخير والجمال..
والله المستعان..
megahedkh@hotmail.com