مع فرضية التعايش الفعال بين أبناء الدنيا، أوالإقصاء والتهميش والنزاع والاحتراب، تظل جدلية الفكرة ومؤشرات الواقع حائرة، وحتي إشعار زمني آخر!
ويتساءل كثيرون إلي أي مصير يتجه أبناء المعمورة بعد فشلهم الذريع في جملة من الإختبارات الوجودية والمعوقات الحياتية، اعتبارا من مطلع الألفية الجديدة وبداية القرن الواحد والعشرين.
ووسط دعوات أولي العقل والحكمة نحو إقرار منطق العدالة الإنسانية الأممية وفرضية التعايش الإيجابي ومنهجية التسامح اللامحدود، تتعدد الرؤي والقناعات ما بين الأمس واليوم.
وفي هذه الآونة، ومن قبل تحدث الكثير من النخب والفلاسفة حول فكرة تكامل الحضارات، وآخرون أفاضوا في النقاش والبحث والجدل والتحاور حول قضية رفض الهيمنة المطلقة بكافة صورها الثقافية والسياسية والاقتصادية، ومع رفض فكرة الانقسام الأممي بين دول العالم الأول والثالث، بما يحمله هذه التصنيف من عنصرية وغبن وتفرقة واستعلاء.
ويتجه المنصفون نحو ضرورة إقرار قيم العدالة الإنسانية والتوحد والتكاتف لمواجهة التحديات الإنسانية، التي تواجه كوكب الأرض وعلي رأسها الأزمات والمشكلات الاقتصادية المتجددة،
وقضايا الفقر ونقص الغذاء، وندرة المياه العذبة إضافة للتأثيرات السلبية للعدوان الجائر علي البيئية وإهدار الموارد وتهديدات التغيرات المناخية المتصاعدة.
وتزداد المخاطر مع استمرارية الحصاد المر لنتاج ومردودات الفكر الغربي المتسلط، ومتطلبات القطب الأوحد وإصرار المعسكر الغربي علي صياغة جل قضايا كوكب الارض وفقا لقناعاته ومصالحه ورفض فكرة تعدد الأقطاب.
وأتصور أن معطيات الواقع تؤكد حتمية ومنهجية ومنطقية التسامح الإنساني اللامحدود، بحثا عن فكرة التعايش والتكيف والسعي المشترك لمواجهة هذا الكم غير المتوقع من المتغيرات والمغريات والمستحدثات.
ومع التسليم المطلق بواقعية الاختلاف، باعتباره سنة كونية في الثقافات والقناعات والأهداف،لكن تبقي هناك حدود دنيا للتوافق بحثا عن القواسم المشتركة، حتي لو انطلق البعض من المنطق النفعي “الميكاڤيللي”، وصولا للحد الأدنى من التوازن في العلاقات الدولية بغية صناعة حياة بشرية أكثر أمنا وإشراقا وإنسانية!.
وفي تقديري أن التسامح اللامحدود بكافة محدداته وعناصره وروافده القيمية والإنسانية يجب ألا يتجزأ، فهو منظومة ذات أهداف سامية تسهم في إصلاح وتقويم كافة المجتمعات ،مع مراعاة بعض الهوامش الإيديولوجية المقبولة، كما أنها لا تتعارض مع الخصوصية الحضارية والثوابت العقيدية والتراثية ومحددات الهوية.
وليس الهدف أن نتفق جميعا على ثقافة ما أو سلوك بعينه، لأن هذا الاتفاق ربما يكون محالا، وإنما يجب أن يكون الهدف هو أن نتعلم كيف نختلف، فالاختلاف له أسس ومرتكزات يأتي في مقدمتها الإيمان بأن هذا الاختلاف هو سنة كونية يجب قبولها، مما يتطلب تنمية روح التسامح واحترام التعددية بشتى صورها وترك التعصب والتشبث بالرأي الواحد، إذا ما أردنا النهوض والارتقاء الحضاري بالمجتمع الإنساني بشكل عام وكافة المجتمعات المحلية بصورة خاصة.
ورغم قناعة أصحاب الضمائر الحية والقلوب بقيم الخير والحق والحرية والعدل والجمال كقيم إنسانية لا تقبل الجدال والمراء، ويقين هؤلاء بحتمية الشراكة الإنسانية نحو عالم واحد يحكمه مصير واحد، فما تزال المحركات الفاعلة لمصير العالم تحكمها قوي النفعية وأباطرة السياسة، وأنصار صناعة التوتر وغرس الشقاق والنزاع الطائفية والمذهبية والأيديولوجية، ومعها صنوف الفوضى الخلاقة والعمل شبه المنظم بطرق مباشرة وغير مباشرة لتدمير المجتمعات وجدانيا وماديا، وخلق قيم استهلاكية جديدة وصناعة أجيال التمرد ورفض الواقع!
وعلاوة علي الأهداف النفعية الخفية التي تتعدي أحيانا الدول والتنظيمات الإقليم، فهناك قناعات خبيثة لهؤلاء تعتمد في المقام الأول علي الإبقاء علي الفجوات والمسافات الحضارية المتباعدة لتكريس الهيمنة والسيطرة في مصائر أبناء المعمورة شاء من شاء ..وأبى من أبى !.
ومع تفشي هذه الآفات الغربية المعاصرة، وبعد اختبار “غزة” الإنساني المؤلم، واستمرار الحروب وويلات التغيرات المناخية، وبعيدا عن قناعة الشعوب والمجتمعات، والتي بدأت في تصحيح الصور الذهنية المغلوطة، فهناك دعوات للتسامح الشكلي وارتداء أقنعة مزيفة للحرية والعدالة والديمقراطية!.
لكن ما يحتاجه عالمنا الآن وبالمعنى الذي يجب أن يكون هو التسامح الحقيقي لا الشكلي، التسامح الذي يقبل المختلف قبولا حقيقيا ويعترف بحقه في الاختلاف، وليس مجرد التظاهر بالتسامح الذي ينكشف زيفه وكذبه مع أول اختبار!.
وما نحتاجه هو تسامح تكون غايته أن يعيش العالم في سلام ووئام دون نظرة استعلاء من طرف لغيره، نحتاج التسامح كصفة ذاتية وصفة اجتماعية في الإنسان نفسه، حيث يتبلور تسامحه في قبوله لذاته من حيث كونها ذاتا بشرية مهما تسامت، فلا يمكن أن تصل لمراتب الكمال المطلق أبدا، ومن ثم يعد فهم الإنسان لذاته وطبيعته واعترافه بأخطائه وعثراته الخطوة الأولى لتطبيق التسامح الحقيقي مع الذات، ومحاسبتها بما يتوافق مع طبيعتها البشرية، وكذلك يكون التسامح أيضا خطوة مهمة نحو قبول الآخر المختلف والتعامل معه تعاملا إيجابيا، فلا مكان ولا مجال لعنف أو تعصب بين أناس عرفوا معنى التسامح وأدركوا قيمته وطبقوه في علاقاتهم، ومن ثم يكون التسامح أيضا المبدأ الأساسي لقبول التعدد والتنوع والاختلاف سواء بين أبناء المجتمع الواحد أو بين المجتمعات المختلفة، كما يتبلور مفهوم التسامح الحقيقي أيضا من حيث كونه صفة اجتماعية في احترام أبناء مجتمع ما له ثقافة وهوية خاصة، إذ أن لكل مجتمع هوية تميزه وثقافة يرتضيها أبناؤه ويجب أن تحظي بالتقدير المتبادل !.
وفي هذا السياق وحول جل هذه المعاني والمنطلقات طرح المفكر الكاتب ماجد الغرباوي رؤي مهمه عبر سطور كتابه “التسامح ومنابع اللاتسامح ..فرص التعايش بين الأديان والثقافات”، والذي صدر عن دار الحضارية للطباعة والنشر، ببغداد عام 2008م.
ويرى الغرباوي في كتابه القيم : أن التسامح في نظر الأوساط المتصارعة لا يعدو كونه قيمة أخلاقية تتحكم به مؤثرات اجتماعية وسياسية، وهو في رأيها منّة وتفضل مشروط، قد ينقلب إلى ضده إذا فقد رصيده الأخلاقي، وما نحتاجه فعلا لتوطيد العلاقة بين الطوائف والقوميات مفهوما يرتكز الى أسس متينة، تتفادى الاحتكاك على خطوط التماس، إلا أن المراد بالتسامح أنه موقف إيجابي متفهم من العقائد والأفكار، يسمح بتعايش الرؤى والاتجاهات المختلفة بعيدا عن الاحتراب والإقصاء.
بهذا المعنى يتفق باحثون حول ضرورة تكريس مفهوم التسامح وفق حاجات الإنسان الاجتماعية بعيدا عن المنـّة والتفضل والكرم، بحيث يكون التسامح حقا لجميع الأفراد على أساس الاعتراف بالآخر وحقه في الاختلاف كيفما يشاء بشرط عدم الإضرار بغيره.
وهذا يؤكد لنا أنه ثمة اختلاف جوهري بين تسامح شكلي، تفرضه دوافع السلم الأهلي أو الاجتماعي يقوم على المنّة والتفضّل، ويحمل في داخله نواة انهياره، في مقابل تسامح حقيقي، يعي صاحبه مفهوم الآخر، ويعترف به شريكا بالحقيقة مهما كانت نسبتها، أي تسامح يسمح بتعايش مختلف الرؤى والاتجاهات بعيدا عن الصراع والاقصاء، على أساس شرعية وجود الآخر دينيا وسياسيا وضمان حريته في التعبير عن آرائه ومعتقداته.
وبهذا المعنى يكون التسامح الحقيقي ضد احتكار الحقيقة والاستئثار بالنجاة لطرف دون آخر بعيدا عن إصدار أحكام برفض الآخر أو تكفيره لمجرد اختلافه مع من يتوهم أنه يمتلك الحقيقة المطلقة، كذلك يكون التسامح وسيلة للقضاء على منابع اللاتسامح، التي تتعدد تبعا لطبيعة المجتمع ثقافيا وفكريا وعقيديا، وأيضا تبعا لمستوى حضور الدين ومدى تمسك المجتمع بالقيم الدينية والاجتماعية، ولكن ثمة منابع في نظر الغرباوي تعد أكثر أهمية مما سبق، من بينها المنابع التي تفضي إلى التعصب الديني والقبلي والسياسي، وما ينتج عنها وما يعمق وجودها ويركز فاعليتها من مفاهيم وقيم.
ويخلص الغرباوي عبر مؤلفه قائلا: “لم يبق أمام الشعوب الإسلامية خيار للحد من ثقافة الموت والعداء والإقصاء المتفشية في كل مكان، سوى تبني قيم التسامح والعفو والمغفرة والرحمة والأخوة والسلام لنزع فتيل التوتر وتحويل نقاط الخلاف إلى مساحة للحوار والتفاهم بدلا من الاقتتال والتناحر.
وأوضح لنا الكتاب، وبنظرة أكثر شمولية أنه لا مجال لحياة إنسانية هادئة مطمئنة بعيدا عما نعانيه ويعانيه عالمنا الآن من حروب وصراعات ونزاعات وإبادات جماعية لشعوب بأكملها إلا بالتسامح، إذ ليس من الإنسانية في شيء أن يحصل شعب بعينه على حقوقه كاملة، ويعيش حياة مطمئنة على حساب شعوب تفتقد أقل حقوقها وهى أن تعيش بسلام دون تهديد أو عنف أو فقد أو إقصاء أو معاناة، وبالمثل لا يمكن تحقيق التسامح إلا من خلال تضافر الخطاب الإعلامي مع الخطاب الديني والسياسي والتربوي، وذلك يتطلب تعاون الفرد مع المجتمع مع القانون والدولة وتكريس الإجماع الأممي نحو ذات الهدف.
إنها رسائل وإشارات من كتاب الحياة المفتوح الأكثر ثراء، ولمن يهمه الأمر..لعل وعسى!! .