ولنبدأ من الزمالك، وأظن، وبعض الظن حلال، أن البحث عن علاقة بين اعتذار الزمالك عن عدم اللعب أمام الأهلى والحفاظ على كرامته، يشبه البحث عن إبرة فى كوم قش، وقد تكون مثل المستحيلات الثلاث: الغول والعنقاء والخل الوفي!، فكرامة الزمالك أن يلعب مهما كانت الظروف، لأن الزمالك كبير وقلعة رياضية عريقة، لها مكانة وتاريخ، والكبار لا يعتذرون عن «التواجد»، فالرياضة فى جوهرها لعب وفن ومتعة وتسلية وقيم رفيعة، وليست حربا ولا قتالا ولا خناقة فى ساحة شعبية، وأظن أن قرار عدم اللعب أقل كثيرا من قيمة الزمالك ودوره المهم رياضيا واجتماعيا فى مصر.
والحديث عن أخطاء الحكام مع الزمالك قصدا وعمدا هو نوع من اللغو، إذ لا يوجد ناد فى مصر لم يعترض على هذه الأخطاء، سواء فى خطابات رسمية أو بيانات إعلامية، وأكثر هذه الأخطاء راجع إلى عدم الكفاءة وغياب المعايير أو السهو أو سوء التقدير، وأقلها راجع إلى من يستحل حقوق الآخرين، وهذه مسجلة فى فيديوهات منتشرة على اليوتيوب.
ولا توجد ملاعب فى أى بقعة على كوكب الأرض دون أخطاء تحكيمية، بعضها مؤثر للغاية فى بطولات محلية وقارية وعالمية, ولم نسمع أن ناديا أو منتخبا انسحب بسببها.
وهذا لا يمنع أو يحد من حق إدارة الزمالك فى أن تعترض وتتخذ ما تشاء من مواقف دفاعا عن حقوق تراها واجبةً لفريقها، وإذا لم تفعل فهى مقصرة.
لكن إذا كانت المطالبة بالحق واجب، فإن كيفية المطالبة وأخذ الحق فى أى صراع هو فن وحسابات وأساليب، والحياة عموما فى كل جوانبها هى مجموعة صراعات بين مصالح متضاربة أو متشابكة.
ولا يعرف أحد على وجه الدقة ما هى المفاهيم التى حكمت إدارة الزمالك حين عقدت جلسة طارئة، بعد مباراة فريقها مع المصري، هل فكرت فى إدارة صراع مفتوح أم صراع مؤقت؟، هل درست كل الاحتمالات أم أصدرت بيانها بمطالبها الأربعة، شروطا حتمية لتعود إلى اللعب أمام الأهلي، دون أن تسأل نفسها ما هى الخطوات التالية؟
هذه أسئلة مهمة لأن الشروط الأربعة حددت مسارا فى غاية الصعوبة والتعقيد، ليس لإدارة الزمالك فحسب وإنما أيضا للأطراف الأخرى التى يخاطبها البيان: اتحاد الكرة ورابطة الأندية ولجنة المسابقات ولجنة الحكام والبث التليفزيونى والرعاة، فالبيان بدا كما لو كان معركة صفرية، وهذا لا يصلح مطلقا فى أى مفاوضات، فالتفاوض هو عملية شد وجذب فى مساحة تقبل المرونة، وليست فى مساحة معدومة، المساحة المعدومة تحدث فقط فى المعارك العسكرية الفاصلة بين منتصر قاهر ومهزوم عاجز فقد كل قدراته، وفى غير هذه الحالة لا يمكن أن تعمل قاعدة «الشروط الجبرية»!
وكانت شروط الزمالك جبرية، مرهون تنفيذها بـ48 ساعة على الأكثر، وأظن أن اليابان لم تعلن استسلامها إلا بعد ستة أيام كاملة من إلقاء قنبلتين ذريتين أمريكيتين على هيروشيما ونجازاكي، أى بعد 144 ساعة من الدمار التام، وبالقطع لا يملك الزمالك قوة نووية وهو يحدد شروطه فى 48 ساعة!
المدهش أن أبناء الزمالك من لاعبين قدامى وإعلاميين زادوا من مساحة الحفرة وعمقوها، دون أن يضعوا «مصلحة» الزمالك أولا، ومصلحة الزمالك أن يصل إلى مراده وأهدافه دون خسائر فادحة أو صورة مسيئة لقلعة رياضية عظيمة!
يبدو أن «الحصول» على رضا الأولتراس وهتافاته كانت أهم من مصلحة الزمالك.
لكن الأزمة تصرخ فينا بأن «منظومة كرة القدم»، قوانين ولوائح وإجراءات وشخصيات فيها من المشكلات والاعوجاج ما يحتاج إلى علاج جذرى شامل.
نترك الزمالك ونذهب إلى الحرمين، اقصد مركز شباب الحرمين فى المندرة قبلى بالإسكندرية، كنت مارا قبل فترة، لاحظت أضواء كاشفة، حياة صاخبة، أصوات شباب وصبية، عائلات داخلة وخارجة، والحرمين حى شعبى صغير بالمعنى الحرفي، فدخلت إلى المركز، وبُهرت بما رأيت، شباب يلعب كرة قدم، فتيات يلعبن كرة سلة، صبية يلعبون كرة يد، جمع غفير فى حمام السباحة، عائلات تجلس فى كافيتريا الهواء الطلق كما لو كانت فى ناد اجتماعي، مشهد لا تجده إلا فى الأندية الرياضية الكبيرة، فكيف حدث فى مركز شباب بحى شعبى جدا
ورحت أبحث عن أصل الحكاية، هذا المركز كان قبل بضع سنوات فى حالة يرثى لها، لدرجة أن الأمطار فى النوات الشتوية كانت تعطله تماما عن العمل، إذ يتحول إلى برك مياه، لعدم وجود نظام صرف لها..
المهم ان مجموعة شباب فى الثلاثينيات، من أعضاء المركز بقيادة المحاسب محمد شعبان قرروا أن يخوضوا التجربة، أن يحولوا المكان إلى مركز رياضى لخدمة وتنمية المجتمع، وفعلا دخلوا انتخابات مجلس الإدارة قبل ثلاث سنوات، ونجحوا، وفى اليوم التالى بدأوا العمل، وعلى رأى المثل الشاطرة تغزل برجل حمار..داروا على رجال الأعمال الصغار بالحى وأعضاء مجلس النواب، لم يقبلوا تبرعات مليما واحدا، وإنما تبرعات عينية، شيكارات أسمنت ورمل وطوب أحمر، جرادل بويات، أسلاك كهرباء لمبات إضاءة، مواسير مياه وصرف صحي..الخ، وأعادوا بناء المركز:عملوا حمام سباحة مع رجل أعمال بحق الانتفاع لتسع سنوات يعود إليهم كاملا بعدها، جددوا نجيلة الملاعب، افتتحوا صالة صغيرة لتنس الطاولة، اشتركوا فى 20 اتحادا رياضيا، بالاضافة إلى معمل لتعليم الكمبيوتر والبرمجة، مدرسة للخياطة والتريكو والكروشيه، مركز تخاطب أطفال، وتحول مركز الشباب إلى خلية نحل دون مليم زيادة من وزارة الشباب والرياضة!
هذه تجربة تستحق التأمل والتشجيع والتقليد والتكريم, ففيها حلم وأمل وكوادر شبابية ومستقبل.