تشير التربية الرقمية إلى توظيف التقنيات، أو المستحدثات التكنولوجية، أو أدوات وتطبيقات الذكاء الاصطناعي بصورة إيجابية، في ضوء التزام الفرد بكافة القيم والأخلاق الحميدة التي تشكل سيجًا يحميه من المخاطر والتهديدات الموجهة أثناء التعامل المباشر معها، ووفق معايير المواطنة الرقميّة التي تشكل إطار استخدام وتوظيف صور التقنية الرقميّة عبر البيئة الافتراضية بشكل صحيح.
وتكمن ماهية التربية الرقمية في تنمية مقدرة الفرد للاستفادة من كافة الموارد والمصادر الرقمية دون معوقات والتعامل الآمن عبر الشبكة الدولية ومواقعها الالكترونية من خلال الأجهزة الذكية والقدرة على التواصل والتفاعل مع الآخرين وتبادل الأفكار والخبرات بطرائق مختلفة مع مراعاة القواعد والآداب والتقاليد العامة التي تسهم في تقويم السلوك وتجنب حدوث أي أضرار سواءً أكانت نفسية، أو اجتماعية، أو جسدية، أو عقلية، أو عقدية، أو فكرية، بما يضمن سلامة الفرد ومحيطه الذي يعيش فيه من أسرة ومجتمع ووطن.
ولا تنفك ماهية التربية الرقمية عن تنمية وعي الفرد تجاه التوظيف الأمثل للتقنيات الرقمية بما يجعله يحقق الغاية المنشودة ويلبي احتياجاته التعليمية والثقافية ويساعده في إنجاز ما يوكل إليه من مهام مراعيًا المبادئ والقوانين المنظمة لاستخدام التقنيات الرقميّة بما يضمن سلامته والآخرين، ويساعده في تنمية وعيه بالمخاطر الجسدية والنفسية الناتجة عن التقنيات الرقميّة وسبل الوقاية منها، ومن ثم يمكنه حماية نفسه وما يمتلكه من معلومات وبيانات وأجهزة رقمية وما ترتبط به من شبكات ومنشآت، وتفعيل جدارات الحماية ضد الفيروسات، أو الاختراق، أو الإرهاب الرقمي، أو المتطفلين.
وإذا ما تمعنا في ماهية التربية الرقمية نجد أن بينها وبين التربية المؤسسية أو التربية الاجتماعي الكلاسيكية علاقة ارتباطية موجبة نستخلصها من أهداف كليهما رغم تباين المجتمع الرقمي عن المجتمع الحقيقي؛ إلا أن هناك قواسم مشتركة تبدو واضحة في القيم والقوانين والأعراف المنظمة لطبيعة العلاقات بين الأفراد والجماعات والمجتمعات، وهذا بدوره يحافظ على طبيعة العلاقات ويقويها ويحقق الثمرة المنشودة جراء التواصل الفعال بين الجميع على مستوى الأفراد أو المؤسسات.
والتربية في كليتها تهتم بتعديل السلوك من خلال إكساب الفرد مجموعة الخبرات التي تنمى معارفه وتحسن أدائه وممارساته وتشحذ وجدانه بالطاقة الإيجابية التي تتضمن في مكنونها سلسلة من الاتصاف القيمي النبيل والخلق الحميد، وفي المقابل تهتم الرقمية بالتوظيف والتعامل الصحيح للتقنيات الرقمية وما تتضمنه من محتوى رقمي أي كان صورته؛ فقد أصبح التعامل الرقمي أمرًا وجوبيًا غزى كافة مكونات وتفاصيل الحياة، وجميع المجالات التعليمية والعملية، والمهنية، والطبية، والعسكرية، والاقتصادية، والبيئية.
وأرى أن التربية الرقمية يمكنها أن تحدث ضبطًا للسلوك وتكيفًا مع المجتمع الحقيقي والرقمي في آن واحد، وهذا يتأتى عندما يستطيع الفرد أن يفي باحتياجاته التعليمية وغير التعليمية بطريقة صحيحة، وتجعله يحافظ على نفسه والآخرين ويتحرى الدقة في تعاملاته، ويتصدى لأي تهديدات أو مخاطر يتعرض لها مجتمعه الرقمي؛ حيث يمتلك أنماطًا من الوعي سواءً أكان اقتصاديًا، أو سياسيًا، أو اجتماعيًا، أو ثقافيًا، أو بيئيًا، أو قيميًا، أو عقديًا.
واعتقد أن التربية الرقمية لا تقف عند حد التعامل أو الاستخدام أو التوظيف التقني، أو حتى عند حد التمكن المهاري والخبراتي لهذه التقنيات وأدواتها وتطبيقاتها؛ لكن الأمر يتعدى ذلك بما يجعل الفرد يمتلك وعيًا تقنيًا تقوم فلسفته على فكرة تحقيق ذاته وأهدافه المشروعة وصقل خبراته التي يخدم بها تخصصه ومجتمعه ووطنه؛ ليخرج من حالة الخيال إلى حالة التفرد المهاري من خلال تطبيقات وممارسات وسلوكيات يؤديها تسهم في الإنتاجية التي نتطلع إليها ونرصد مؤشراتها.
والتربية الرقمية تستهدف في طياتها تحقيق ماهية الاحترام واكتساب الخبرات وتوفير الحماية التي تكفل الحقوق والواجبات وتحد من الجرائم الرقمية وتعرف الفرد بالسياسات والأنظمة المتبعة للاستخدام الآمن وفق شروط وتراخيص الانضمام أو استعمال البرامج المختلفة عبر الفضاء الرقمي بمواقعه الرسمية وغير الرسمية، وهذا بالطبع يؤكد ضرورة غرس القيم من أمانة ومصداقية والحفاظ على السرية والخصوصية والملكية الفكرية للآخرين.
إن التربية الرقمية تسعى إلى بناء إنسان قادر على العمل والإنجاز والعطاء والتعاون والمشاركة والشراكة يحترم الآخرين وخصوصياتهم ويتحمل مسئولية ما يقوم به من أداءات أو ممارسات أو أفعال عبر البيئة الافتراضية، كما يحرص على تكوين علاقات اجتماعية إيجابية يتبادل معها الخبرات ويشاركها المشروعات التي تعود بالنفع على الجميع، وهذا بمثابة إعداد حقيقي لخوض غمار الفضاء المفتوح الذي أصبح شريكًا أصيلًا في إنجاز مهام مجالات التنمية المختلفة دون جدال.
ويصعب أن ننكر الفوائد التي نجنيها من تربية رقمية تقوم على غرس معرفي صحيح يسهم في صقل الخبرات ويضمن تكوين وجدانيات تستلهم ضيائها في فحوى عبير قيم نبيلة وأخلاق راقية، ولا ننكر فاعلية التقنيات الرقمية في تفريد اكتساب الخبرات أي مراعاة الفروق الفردية، ودورها الرئيس في تنمية مهارات التفكير العليا بأنماطها المتعددة، وهنا تؤدي التربية الرقمية دورًا مهمًا نلمسه في تعضيد الوعي الثقافي لدى الفرد بما يجعله يصون حضارته ويضيف للرصيد المعرفي من خلال مشاركته الفاعلة في صناعة المعلومات وضخ مزيد من الأفكار التي تنسدل من تفكير ابتكاري قائم على الربط الوظيفي بين النظرية والتطبيق.. وللحديث بقية.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بنين بالقاهرة _ جامعة الأزهر