سيدتى قبل فوات الأوان أقطعى بحزم هذا الحبل الذى يربطك بالألم والحزن .. هذا الحزن المرضى الذى يعيش معكِ أينما ذهبت و على مر السنين .. أقطعية سريعا .. لا تترددى فهو الطريق الى كل ألوان الأمراض المختلفة والتى شريانها القهر و الكمد….فاذا صنعت كل الخير و قوبل بالجحود والنكران فلا تنزوى عن الأنظار و تذرفى الدمع الغالى الساخن و لا تجترى مرارة الهزيمة .. لا و الف لا …. بل انهضى سريعا ولا تستجدى من أحد السعادة التى بخلت انتِ بالبحث عنها و هى على بعد خطوات .
كونى فراشة ذكية حومى حول النور لا النار ، التمسى أعمال الخير الايجباية تُدر عليكِ البهجة و السعادة و الثقة بالنفس . لا تدورى فى فلك من يسبب لك الالم فيُعييك الدوار ….انطلقى فى اتجاهات الخير فهى شجرة ظليلة ..اختارى ما يناسبك من فروعها و اسلكيه ..تنفسى بعمق .. دعى اكسير الحياة يتخلل كل كيانك، هذه الافكار تملكتنى و تدافعت إلى ذهنى بعد ان قابلتُ على غير موعد ذات مساء سيدة فى مقتبل العمر و ان كانت فى صمتها تبدو اكبر، يرتسم على وجهها لمحه حزن و إكتئاب جلست بجوارى وانا فى طريقى إلى رحلة عمرة ، ابتسمت احييها فردت بابتسامه ساحرة غيرت من ملامحها تماما كأنها تبدلت فى لحظات ثم عادت مستسلمة لصمتها.
فلما طال بنا الوقت تبادلنا بعض الاحاديث السريعة و سألتها عن اطفالها الذين ذكرتهم لى أين تركتهم ؛ فأخفت عينيها الدامعة فشعرت أننى ازحت ساتراً عن نكد أزلى بداخلها فجذبتها إلى صدرى أحتويها و أعتذر ان كان سؤالى مس جرحاً بداخلها ؛ فلما هدأت تنفست بشئ من الارتياح موضحة انها تركتهم لقريبة لها لاحتياجها الشديد لأداء العمرة لعل الله يتقبل منها و يلهمها الطريق للراحة و السكينة بعد ان ارهقتها الحياة .. ثم قالت بعبارة مختصرة : “انا لم أعرف طعم السعادة فى حياتى ….فلا صديقة مخلصة و لا جارة طيبة و لا زوج يقدرنى حق قدرى و اما فى مجال عملى فـ ……….” و لم تكمل عبارتها و اختنق صوتها و ذابت الكلمات فى عذاب مرير فطلبت اليها ان تفصح لى أكثر لنحاول معا حل هذه الخيوط المتشابكة المتداخلة كخيوط العنكبوت التى اوقعت نفسها فيها كفريسة سهلة مستسلمة ….فنظرت لى بشئ من الريبة كأنها تتوجس أن تكون يدى ممدوة ربما بدافع الفضول أو التسلية بمشاكل خلق الله ….فمسحت على رأسها مؤكدة لها بأن : السعادة الحقيقة فى مشاركة الاخرين و بأن الله فى عون العبد مادام العبد فى عون أخيه.
ابتسمت فى انكسار شديد قائلة : ” انا ليس لى حظ فى شئ على الإطلاق”. فوقفت عند هذه النقطة لتكون بداية الخيط الذى نحاول فكه و أشرت لها بان تُكمل فأسترسلت : ” صديقتى ليست مخلصة و جارتى تنغص على حياتى فهى سليطة اللسان تؤذى كل جيرانها .. و حتى زوجى لا يقدرنى حق قدرى و يبخل بمشاعرة فاذا مرضت لا ينزعج لمرضى و لا يقدم لى الزهور و يفضل الجلوس مع رفاقه على الجلوس مع اولاده ، و اما عن عملى فلا اعطيه حقه .. أتعلمين أن كثيرا ما تقع الاكواب من يدى من شدة الرعشه.. فبعد ان كنت رومانسية اصبحت العصبية لا تفارقنى ” . وحين انتهت من الفضفضة امسكت بيدها أخفف من شدة انزعاجها و طلبت منها ان نتبادل أرقام الهواتف و ان تتوجه قبل كل شئ إلى الله بالدعاء ان يصرف عنها الشيطان و الهواجس و ان تستمع الى فى شئ واحد لعل الله يجعل من هذا الشئ طوق نجاة و هو ان تضع الاشياء فى حجمها الحقيقى و شرحت لها بأن الاوهام القاتله كظل الحشرة الصغيرة فى ضوء الشمعة الخافت ، فهذا الضوء الخافت يجعل من الحشرة الصغيرة عملاقا .. فتزداد مخاوفنا و تفزعنا و ان كانت فى الواقع حشرة ضعيفة صغيرة تستمد حجمها الضخم بالزيف .. و نحن نساهم فى هذا الفزع ببقائنا فى هذا الضوء الخافت فعلينا ان نضئ النور بالمواجهة لتتراجع هذه الحشرة إلى حجمها الطبيعى ثم نطاردها و ندمرها قبل ان تدمرنا و لكن كثير ممن يتسببوا فى هذا الالم ربما عن جهل فنساعدهم على محو جهلهم و ان اصروا فعلينا ان نتجاهلهم تماما فيصبحوا فى حيز اللاوجود و لا نركع و لا نسجد الا لله و لا نترك للجهلاء فرصة ان يقيموننا او ينقصوا من شأننا فننجوا باذن الله بسلامنا النفسي ..
و الدنيا أولا و أخيرا الى زاول و ان اجبرتنا الحياة على التعامل مع السفهاء او غيرهم فلا نتعامل تحت تأثير الانفعال و شهوة الانتقام فتصل بنا إلى نتائج مروعة ….فتعليق المشانق لاسترجاع الحقوق يوقعنا فى نفس الفخ و يزيد الامور تعقيداً . و ليكن التعامل من خلال الله سبحانه و تعالى فنزداد قوة و صلابه و يحالفنا الصواب و نفوز بانشراح الصدر و راحه البال ..فمثلا صديقتك غير المخلصة فهى ليست صديقة كتشابه الكلب و الذئب ، اخرجيها من دائرة النقاء إلى حيث التجاهل التام و الاستبعاد ، و اما عن جارتك السليطة لا تضعيها فى بؤرة الاهتمام إلى ان تفيق من ذنوبها او تقع فى الحفرة التى تزداد بمصائبها يوما بعد يوما.
و اما عن زوجك الحبيب فعليك بالدعاء و الصبر و الانشغال عن سلبياته باعمال الخير و مباهج الحياة المشروعة ، فماذا عن ديكور منزلك و التغيير للبعد عن الملل و ليكن التغيير بيديك فيكون اقل تكلفة و اكثر متعة ، و ماذا عن عمل فستان صغيرتك بيديك ، أو تطريز مفرش لغرفه المعيشة بخيوط من الالوان المبهجة ، و قبل كل هذا قراءة الكتب التى تفيدك فى تربية ابنائك ليصبح سلوكهم سويا و ملتزما و تحققى فيهم الذرية الصالحة …. فلو بكت كل امرأة حظها و عمرها الضائع و غفلت عن صغارها فهذه هى الطامه الكبرى و بذرة الضياع ؛ حيث نجد أولاد الغافلين من الشباب فى الشوارع يمزحون بأبشع الالفاظ . فماذا لو انقلب المزاح إلى اشتباك بالاسلحة و المطاوى ؟ و أمهاتهم الغافلات يبحثن عن العمر الضائع متناسيات بأن العمر الحقيقى هو فى القيم و الاخلاق والسلوك الطيب الذى تبثه كل أم صالحة فى صغارها و ترعاه بكل ذرة فى كيانها فتحصد فى الدنيا و الآخرة و الثمار الطيبة ” .
و بعد ان انتهيت من الحماس الذى تملكنى اعتذرت لها عن طول استرسالى فى النصائح و أمسكت بيدها طوال الرحلة و كأننى اشد من أزرها لعل بذرتى تطرح الورود بداخلها . ومرت الشهور على هذه الرحلة وذات مساء استقبلت من صديقتى الرقيقة مكالمة هاتفية فدق قلبى من الفرح و انا اسمع نبرة صوتها عبر الهاتف و قد اختلفت تماما عن حديثها معى فكان يشع بهجة و رضا و امتنان فسألتها عن احوالها فاخبرتنى بان بيتها الجميل و أطفالها يأخذون الكثير من وقتها و انها تنظم لأولادها جدولا أسبوعيا لحفظ القرآن و أصبحت أكثر صداقة و قرباً منهم .
و من خلال هذا تبث بداخلهم السلوك الطيب و تَبرهم لتكون قدوة لهم ، و عرف الدفء طريقه إلى عشها الجميل . و اما عن زوجها فأصبح يخصص الوقت الأكبر لأسرته الحبيبة و أصبح هو الذى يشتكى من انشغالها عنه .. فتداعبه قائله : “كدا خالصين” ، و اما عن جارتها السليطة فاقسمت بانه تدبير من الله عز و جل بعد دعائها فى الكعبة لها بالهدايةِ و ان يكفيها شرها. وعند عودتها وجدت جارتها تتطاول على إحدى الجارات و فى اثناء هذا انزلقت من السلم و كُسرت ساقها فما كان من الجارات الفُضليات الا ان حملوها للمستشفى و هى تصرخ من الالم و هن يشفقن عليها و يخففن عنها . و بعد ان قام الطبيب بتجبريها أعادوها للمنزل و تناوبن على رعايتها و رعاية أطفالها و إعداد الوجبات فى حنو بالغ ..فأستيقظ بداخلها سلوك وليد و كانت تبكى من شدة الخجل و الندم ثم اعترفت لهن بانها ضحية التربية الخاطئة فاستفحل بداخلها ميل عدوانى إلى ان تلقت منهن الدرس فى حسن العطاء و التسامح و تعاهدت معهن ان تصبح إنسانة جديدة . واما عن الصديقة غير المخلصة فتجاهلتها تماما و هى الآن تنتقى بعناية صداقات جديدة ثم عرضت على يدها الممدودة لأكون أقرب الصديقات ففاضت عينى بالدمع و سجدت لله شكراً .