في زيارةٍ خاطفة لكلية دار العلوم بجامعة القاهرة، أجلتُها أكثر من مرة لشواغلي ببلاط صاحبةِ الجلالة، أو بمعني أصح أجلتُها لأبقي أطولَ فترة أُكابد شوق إنجاز أمرٍ مُحببٍ إلي قلبي، ليَقِيني بأنه متي تحقق المرادُ زال الشوقُ، وهذا ما كنت أرفضُه وأرجئ حدوثه، ليستمر الشوقُ ويزدادَ الحنينُ لمكان انقطعت صلتي به لما يزيد علي عَقْدين من الزمان.
وما إن صعدتُ درج (السلاملك) الخلفي، بعدما أُغلقت بوابةُ السُلم الرئيسي دون أن أعرف السبب بأقفال من حديد، حتي وجدتُني داخل ذلك الحصن، الذي أشاد بفضله علي العربية الإمامُ محمد عبده بقوله: إن اللغة العربية تموتُ في كل مكان وتحيا في دار العلوم.
وسريعا عادت بي الذاكرة، فاستحضرتُ كيف أحاطني ذلك المكانُ وزملاء الدراسة بدفء المعرفة والثقافة والعلم علي أيدي شيوخ أثبات، كان الواحدُ منهم نسيجَ وحده في مجاله وفنه وعلمه، فإذا نشدنا اللغة تخرجُ حية نابضة كما كانت في عصورها الأولي، هرعنا إلي مُحاضرة شيخنا عبد الصبور شاهين رحمه الله وطيب ثراه فنُحصل علما وأدبا وظَرْفا، تلتئم معه كلُ الجراح، وتزول معه كل الخلافات والإحن، ولو تطلعنا لمعرفة مجد العربية وفضلها علي سائر اللغات، كانت محاضراتُ شيخنا الضليع كمال بشر، والولي العالمِ فتحي جُمعة صاحب (اللغة الباسلة)، والأبِ الإنسان محمد فتيح، والمنتشي الأنيق حبلص ملاذَنا الأمين، وإذا أردنا استقامة اللسانِ من العوج، وتجنبَ اللحن قراءة وكتابة، جمعتنا قاعاتُ الدرس بمشايخ النحو وأعمدته المنيرة: عبد الرحمن السيد، وشاهين، ومحمد عيد، والسخي المتبحر علما د. حماسة، والجبل الأشم أحمد عبد الدايم، والسيد أحمد علي، والراسخ عيد درويش والرائعين الماتعين الشاعر كشك والحافظ عبد المجيد الطويل، وسيبويه دار العلوم جمال عبد العزيز، ورأفت، وأبي براء محمد صقر، وعبد السلام حامد، وغيرِهم ممن قوَّموا ألسنتا وصانوها من العوج واللحن، وحينما نطمعُ في تذوق الشعر يخرج غضا طريا يُعيد إلينا، أو يعودُ بنا إلي زمن امرئ القيس وطرَفة وزهير وعنترة، كنا نلوذ بقاعة شيخنا علي الجندي، المُنمق المتأنق رغم سنه، فكان يدخل علينا وهو يمشي الهُويني كما يمشي الوجيُ الوحِلُ، فيمتعنا بشرحه للمعلقات السبع، حيث نجلسُ وكأن علي رؤوسنا الطير إنصاتا ودهشة، كما كنا نُسرع الخطي كيلا تفوت الواحدَ منا لحظةٌ من محاضرة شيخنا أبي همام تلميذ العقاد، الذي شابهه هيئة وعلما، فنطربُ بسماع قصائده العذبة بصوته الرخيم الحادب، فينزلُ علي آذاننا وقلوبنا صانعا ما يصنعُه الماءُ الزلال بمن كابد شدة العطش.
وكانت مُحاضرات شيخنا أبي الأنوار مَقصِد من ينشدُ علما في الأدب والذوق لا يُحصي ولا يعد، وكذلك كانت محاضراتُ الحاذق المتين أحمد هيكل في الأدب الحديث، والحازم العطوف معًا محمد فتوح أحمد، وراهب الأدب الطاهر مكي، الذي لم يقبل مع الأدب شريكا سواء زوجة أو ولدا، وغيرهم الكثير ممن لم نفز بالتعلم عليهم لتعدد أسفارهم.
وحتي تكتملَ الفائدةُ، ولتضاف إلي قصائد الشعر تحليلاتُه ونقدُه كنا نتدافعُ إلي قاعة شيخنا صلاح رزق فتنهمر علينا تحليلاتُه، وتتوالي تعليقاتُه وتفصيصُه للقصيدة والنص فنقف علي معانٍ عميقة، وتفسيراتٍ دقيقة بواسطة ذائقته النقدية التي لا تُبارَي، والتي هي أشبه بمشرط جراحٍ ماهر يُشرح به جسم المريض ليعرف موطن الداء، ولم تقل عن محاضرة رزق محاضراتُ الرصينين أحمد درويش وحسن طبل ذات العلم الجم والدرر النفيسة، وكذلك العملاق علي عشري زايد، أروع من سطر في النقد الأدبي، وكذلك كانت أيضا محاضرات مشايخنا عبد الحميد هنداوي، وزكريا سعيد تلميذ أبي فهر محمود شاكر، والرائع عبد الرحمن فودة.
وحدثنا من تعلم علي يديه أن محاضرة أبي اليزيد الشرقاوي كانت تجسيدًا حيا للفهم العميق البعيد عن السطحية.
ولنعرفَ التاريخ مُجردا من أي زيف، والحقيقة في أبهي صورها كانت محاضرات مشايخنا: الحُجة أحمد شلبي، والمدقق المحقق الواصلِ للمعني من أقرب طريق عبد الرحمن سالم، والشيخين الحانيين : حسن علي وعبد الله جمال الدين، والمؤرخ عبد الفتاح فتحي، والعالمِ بتاريخ مصر الإسلامية يسري زيدان وزملائهم، هي ملاذنا المنشود.
ولنتعلم التدقيق والنظام، وسمو الفكر، ووضوح المعرفة، وصفاء الروح، كانت محاضرات شيخينا الجليلين: حسن الشافعي، ومصطفي حلمي حفظهما الله، والكريم السخي الذي كانت أسطرُ كتبه تُشع نورا عبد اللطيف محمد العبد طيب الله ثراه، وكذلك د. عبد الحميد مَدكور، والذي إن لم يُدرس لنا لسفره بالخارج إلا أن أثره معلومٌ للقاصي والداني، ولا ننسي شيخنا الجليند الذي ربَّي فينا قمع البدعة، ونُصرة السنة، والشرقاوي، والفاوي، والشاعر الفيلسوف حامد طاهر، وغيرهم ممن أمتعونا علما وأدبا.
ورغبة في تحصيل معارف دينية تتسم بالوسطية والاعتدال، كنا نتسابقُ إلي قاعة شيخنا المُبرِز عميد دار العلوم الأسبق، وتلميذ العلامة أبي زهرة محمد بلتاجي حسن، فندخلُها مُتعطشين للعلم النافع، ونخرج منها شيوخا، حصَّلنا علما ما كان يسعُنا جهلُه، كما كانت محاضراتُ شيخنا أحمد يوسف سليمان، ونبيل غنايم، والداعية الورع صلاح سلطان، والمنسي، وعبدالناصر حامد، وعبد الرحيم ، وسمرة، ومُوافي، وغيرهم قاعات للعلم النافع والفهم السليم دون تقعُر ولا تشدد.
وفي قاعة شيخنا رفعت فوزي حفظه الله تلقينا حديثَ النبي صلي الله عليه وسلم خالصا من أي كذب وزيف.
تذكرتُ ذلك كله وأنا أسيرُ بين طرقات المبني بأدواره الثلاثة، التي تتابعت فيها حجراتُ أساتذةٍ عظام رَحَل منهم من رَحل، بعدما قدم مشكورًا جُل أو كل ما عنده، وبقي منهم من بقي، يُتحف طلابه بعلمه وفنه.
وأمام حجرة الناقد الواعد محمد متولي، المدرس بالكلية، والذي كان هناك موعدٌ للقائه ألفيته شريكا في الحجرة لشيخنا شفيع السيد أحد رواد الدراسات النقدية، الذي درس لنا نقدا أدبيا مقارنا، وكانت تحليلاتُه لأعمال صاحب نوبل نجيب محفوظ هي مفتاح دخولنا لعالم محفوظ الأدبي، وما إن احتوتني الحجرة حتي وجدتني أمام شامخين : شفيع السيد، وعبد الحميد شيحة، والذي لم تغيره السنون فبدا ببزته الأنيقة، وقوامِه الرشيق، وهندامه المُنسق شديدِ الشبه بعقليته المنظمة، التي عرفناها عنه وهو يُدرس لنا نصوصا من الأدب الإسلامي والأموي.
وخلال ذلك اللقاء الماتع – والذي ضم المُترجم الحاذق أسامة شفيع أول دفعتنا 97، والذي كانت بينه وبين الشاعر أحمد بلبولة، والأصولي الشرعي أمير شيشي منافساتٌ شريفة، وصراعٌ خرَّج أفذاذا – نعمتُ بكرم الضيافة المشوب بالعلم والأدب، وانصرفتُ بعده لألتقي عميدَ دار العلوم الحالي عبد الراضي عبد المحسن، الذي يسعي حثيثا لتصير الكليةُ منارة تجمعُ بين الأصالةِ والمعاصرة.