تغيرت عاداتي في التنقل .. أصبحت أفضل أوبر وكريم عن السيارة .. لكن مشاكل القيادة تختلف عما نعانيه مع كباتن الأوبر والـ”جي بي إس” أو الخريطة التي تحدد له وجهته ومساره .. في الأسبوع الماضي استدعيت سيارة عن طريق أبليكيشن الهاتف المحمول .. سألني الكابتن : المعادي؟ بنعم أجبته .. أنت في هذا الحي الراقي أشبه ببيت جحا .. عليك أن تتيقظ وإلا دخلت متاهة تعود منها من حيث بدأت .. قلت للكابتن يمين .. هز رأسه وأجاب يسار .. نبهته إلي أن ما يحدده الـ”جي بي إس” ليس قرآنا وعليه أن يستمع لنصيحتي .. رفض قائلاً هذا “ولي أمري” لا أستطيع عصيان توجيهاته .. نهرته بأن ولي أمره لا يعرف شوارع هذا الحي الذي بناه الإنجليز في القرن الماضي وتعمدوا “لخبطة” القادم إليه ليظلوا بعيدا عن المظاهرات والغوغاء .. المهم أن ولي أمره التكنولوجي فشل في معرفة وجهتي واضطر الكابتن أخيراً لسماع نصيحتي وأنا أخرجه من المتاهه بمهارة قبطان يعرف بحره وأمواجه .. وصلت .. أصر علي رفض أخذ ثمن التوصيلة ولم أتركه إلا بعد إعطائها له وظل يدعو لي وهو يتجه إلي طريق الخروج أو الخلاص الذي وصفته له .. قلت لنفسي اللهم لا تضلني في دنياي ولا آخرتي..
المشوار بدأ لي كأنه سجال بين عقل بشري وكمبيوتر .. ولأننا في زمننا ألغينا ما ميزنا به الله عن سائر المخلوقات فأصبحنا نصدق التكنولوجيا والويب والنت والفضائيات والـ”جي بي إس” وننسي أننا نحن من اخترعنا هذا كله..
بدأ شريط سينمائي يمر بي منذ تعلمت هذا الساحر اللعين (الكمبيوتر) .. كنت اتفاخر بذاكرتي الفولاذية فإذا بي بعد الأربعين ثم الخمسين أصاب بالزهايمر وألجأ إليه لأتذكر اسم فيلم أو كاتب أو مباراة أو تاريخ أو حتي في الأحداث التي عشتها بنفسي .. فقدت بكارتي المعرفية .. صرت أتوكأ علي المحمول والآيباد ليدلني علي ما نسيت وليهديني سواء السبيل .. الأدهي أنه تحول إلي جاسوس علينا برغبتنا ورضانا .. طالما هاتف المحمول عليه تحديد المكان فسيعرف لجميع أين أنت .. سواء زوجتك أو رئيسك .. إذا دخلت علي أي موقع تتسوق وظللت برهة لا تتعد ثواني أمام سلعة أو جهاز .. ستفاجئ بجهازك يعرض لك كل السلع المشابهه في كل مكان مع مقارنة لأسعارها .. لقد تبدلت أحوالنا بالذات كصحفيين وصرنا بدلا من البحث عن المعرفة صار (جوجل) سعيدا بالبحث والتفتيش فينا .. ما عادت لنا خصوصية .. أجهرتنا التي نسعد بها ونجاهد للحصول علي أحدثها هي التي تتولي – برضانا وسعادتنا – كشف كل أسرارنا وصرنا مفتوحين علي بعض حتي لو داخل غرف مغلقة علي بعد آلاف الأميال..
دراسة حديثة نشرت في الهند تبين فيها انخفاض معدلات الأعمال نتيجة للتكنولوجيا .. فقد قل المجهود البدني والذهني .. زادت الأوزان لشعب كان كعيدان القصب فأصبح كأشجار الجميز .. في أمريكا حاليا كمبيوتر عملاق علي مداخل المولات الكبري بمجرد أن تدلف للداخل تفاجئ به يخبرك عن وزنك وطولك وفي أي قسم ستجد مقاس ملابسك وأي الأغذية تناسبك وهناك نسخة متطورة منه يخبرك ما إذا كنت تعاني من ضغط الدم وما هو أفضل نظام لك ..
روسبريدجر أشهر رئيس تحرير لصحيفة الجارديان البريطانية وأطولهم مكوثا علي مقعده صار الآن مدربا في وكالة رويترز للأنباء .. ورغم أن عمله أصبح أكثر إبداعاً في مجال الرقمنه إلا أنه لا يفتأ يحذر من أننا نقترب من مرحلة أفلام الخيال العلمي .. فالكمبيوتر ومشتقاته يعرفون عنا أكثر مما نعرف عن أنفسنا .. والأدهي أننا سعداء بذلك ونحمل آلات المراقبة في جيوبنا ونثبتها بمنازلنا .. سعداء بمعاول التكنولوجيا وهي تهدم قلاع السرية والخصوصية حتي التي نخفيها عن الأقربين فإذا هي علي المشاع للجميع..
لقد أصيب العالم بالكسل المعرفي وتحذر ماريا روزاريا تاديو في معهد اكسفورد للإنترنت من هذا الكسل الذي انعكس في تراجع إبداعات العلوم الإنسانية والأداب والفنون والشعر لصالح المدن الذكية .. تقول في مقال خطير في الفانيشيال تايمز إن الشعوب والحكومات اتفقا بالرضاء والتراضي علي أن يكونوا في سجن دائري تتم مراقبة نزلائه علي مدار الساعة .. نراقب ونُراقب .. نشاهد ويشاهدونا .. ولا يستبعد الخبراء أن ينهار معبد الفيس بوك علي مشيديه إذا مازادت المطالب الشعبية وتوسعة المراقبة السياسية في العالم كله .. الخطورة هي أنك عندما تغذي هذه الآلات بكل شيء حتي الطعام الذي تحبه والمرأة التي تشتهيها أن تجد يوما نظيرا آلياً لك أو روبوت يماثلك في كل شيء .. ويصبح عليك أن تثبت أنك البشري وهو الآلة وربما يكون من الصعب جدا برهنة هذا
وتوضح الكاتبة شوشان روبوف في كتابها “رأسمالية المراقبة” الصادر عام 2014 أن التقدم التكنولوجي سيكون من شانه ابتلاع مفهوم “الملكية الفكرية” .. لن تستطيع بسهولة إثبات أنك المخترع الأول والحصري لماكينة أو المؤلف لكتاب .. خطورة “قوة البيانات” كونها سلاحاً أقوي من النووي والهيدروجين ..
.. لقد تنازلنا عن خصوصيتنا بإرادتنا الحرة ولا نعرف حتي الآن تعريفاً محدداً لها في عالم الغد .. الخطورة أنه إذا تغيرت مفاهيم الخصوصية ستتآكل القيم وبعدها سيصعب علينا نحن البشر الاستناد لحقائق التاريخ والجغرافيا والإنثربيولوجي .. يارب سلم..