أيهما أصعب أن تجوع أو تموت .. ربما يختار البعض الموت هربا من الجوع .. ويزعم آخرون أن البيات علي الطوي مؤقت.. لكن أن تموت وتجوع ويتحكم فيك ملوك الطوائف وأصحاب المال ، فمؤكد أنك في الجحيم .. هذا حال اللبناني .. قبل سنوات كان يضحك ويسهر ويغني رغم أصوات قنابل إسرائيل والحرب الأهلية حتي بعد أن ملك “لجامه” حزب الله ورهن قراره بالأسياد الإيرانيين .. الآن هو غلبان .. لمن يشكو حاله .. ربما يدندن لفيروز “لمين ليه بتخلص العتمة” .. لكن العتمة طالت .. محال البقالة الشهيرة في عيد الفصح ورمضان خاوية .. الدولار “شنق” الليرة بفعل فاعل وتفرق دمها بين البنك المركزي ومحافظه سلامة والحكومة ورئيسها دياب .. لبنان الذي كنا نتغني بديموقراطيته .. صار بلدا بلا دولة .. لاطمه الوباء وصارعه الدولار وتحول المواطنون إلي متسولين بعد أن تبخرت المرتبات قبل أن يقبضوها .. المساكين لا يجدون من يطعم أولادهم إلا بقروض مرتفعة الفائدة ستنتهي بهم للسجن إذا لم يسددوها..
.. نحن في مصر نشكو سوء الأحوال رغم مساندة الحكومة .. ببيروت المواطن أعزل أمام الكورونا .. مهدد في حياته وأهله أمام جائحة تتطلب غذاء ومناعة .. لكن “من وين” كما يقول أهل الشام .. المواطن للأسف “مطحون” بين محافظ البنك المركزي المحصن دستوريا فأصبح أقوي من كل السياسيين و الحكومة التي تحتمي حينا بالطائفية وأخري باتهامات ضد الأغنياء .. وأستحضر قول المتبني العظيم وهو يسخر من الخليفة :
“لا خيل عندك تهديها ولا مال .. فليسعد النطق إذا لم تسعد الحالُ” .. والمعني أنه إذا لم يكن عندك مال فعلي الأقل تكون تصريحاتك أفضل حالاً من خزائنك .. إن هذا البلد الصغير الذي كان مضرب الأمثال سياحة وفنًا وثقافة وأدبا وسياسية ، تحول في عصر الاقتصاد الحر إلي مجرد متفرج يلتقط ما يهبط عليه من بيانات تبدو متفائلة ولكنها تدفعه لمزيد من التشاؤم .. نست الدولة واجباتها وتحولت إلي مجرد عسكري مرور بين الأقوياء وهم أهل البنوك ورجال المال وبين الأغلبية التي رحلت إلي العوز والجوع ..
الغريب أن شيوخ السلطان يركزون في أحاديثهم الرمضانية علي “صوموا تصحوا” .. وللأسف فإن الحديث النبوي الشريف لا يجد آذانا صاغية في بلد يري أبناؤه أثرياءهم يسرقون البنوك ويقيمون ولائم فاخرة يرمون فضلاتها لخدمهم وكلابهم التي تحرس قصورهم …. ومن ثم صار الطعام اليومي من خضار وبقالة وخبز ترفا لا يقدر عليه احد وأصبح بلد الياميش بلا مكسرات .. وكما حدث في مصر ثم في لبنان .. فقد تزايد جشع التجار ونقص إيمانهم واستغلوا البلاء والوباء وقدموا الدولار علي أنه الإله الجديد الذي ذبح الليرة ومن لايملكه عليه بصيام الدهر..
وكما هي عادة بعض الأنظمة العربية في امتصاص الثورات الشعبية ، وعدت الحكومة اللبنانيين أثناء ثورتهم بتحسين الأحوال المعيشية وتراجع حزب الله – مؤقتًا – عن هيمنته الطائفية علي المقدرات السياسية والقرارات الحكومية .. وكعادة الطيبين نسي المواطنون ما ثاروا من أجله بعد حزمة قيل إنها إصلاحات مثل القروض الميسرة وجدولة أقسام المدارس وفتح محال لبيع التموين بأسعار الجملة .. ودخلت النيران الثورية كهف الحكومة “المائي” فانطفأت سريعًا ..
ثم سرعان ما اندلعت بعد تدهور الليرة إلي أدني مستوي أمام الدولار .. وكالعادة بدأ أهل القمة في لبنان البحث عن كبش فداء .. فرئيس الحكومة حسان دياب أشار إلي أن الفساد يأتي من البنك المركزي ومحافظه رياض سلامة الملك المتوج في لبنان الذي يحج إلي كعبته أباطرة المال .. ورد سلامة علي دياب قائلاً أنتم الذين لم تستطيعوا إنفاق الأموال التي أقرضناها لكم في الوجهة الصحيحة .. الغريب أن دياب المتهم بالضعف هو الذي أشار بأصبع مرتعش إلي قائد الإصلاح المالي (اسم علي غير مسمي) أي سلامة .. الأخير تصور أنه لن تطوله اتهامات حكومية لأنه هو الذي أوصي بتعيين دياب .. ونسوا ان الفساد ليس له “جمايل” أو شيلني واشيلك..
لقد رفعت الثورة اللبنانية أوائل العام شعار “كلن يعني كلن” أي تغيير النظام كله .. وعندما لم يتغير شيء .. وقف الفاسدون صفا واحدًا مع سلامة رغم أنه غيرمتهم رسميًا حتي الآن، ولكن خوفا من أن تؤدي التحقيقات إلي تعرية “مليونيرات القروض” وبعضهم نواب في البرمان كما حدث عندنا في مصر بالثمانينيات .. وكالعادة عند أي خلاف سياسي في بيروت تغرد الطائفية ..سلامة الماروني تعارضت مصالحه السياسية مع صديقة المسلم حسان دياب .. أصبحت الحرب طائفية ومالية وسياسية ..
ودياب وإن كان أشار بتردد إلي رياض سلامة الذي احتفظ بمنصبه منذ 1993 فإنه ليس بريئا أيضا .. فهو يملك إسكات الحكومة أو الانسحاب منها أو تعطيل الجلسات .. والاهم يملك تأييد حسن نصرالله وميلشياته رغم أنه سني .. ولكن لأن الحريري ضد دياب ، فيصبح صديق نصر الله..
المعسكران متهمان وفاسدان، وإن كان سلامة أكثر تورطًا .. هي معركة تكسير عظام .. والخاسر الأكبر لبنان .. الطرفان يطبقان خيار شمشون “عليّ وعلي أعدائي” فإما ينهزم امبراطور البنك المركزي الحاكم بأمره في أموال الشعب فتبدأ محاكمة الفاسدين واسترداد الأموال .. وإما يخسر دياب وتسقط البلد مرة أخري في الفراغ والفقر والجوع..