قبل قرن وعشرة أعوام تقريبا كتب أمير الشعراء أحمد شوقي مسرحية مصرع كليوباترا التي لحنها وغناها محمد عبدالوهاب .. وفي فصلها الأول يقول حابي لزميله ديون عن المصريين “اسمع الشعب ديون .. كيف يوحون إليه .. أثر البهتان فيه وانطلي الزور عليه .. ياله من ببغاء عقله في أذنيه”.. توصيف فلسفي لأحوال المصريين منذ القدم .. فنحن نحمل في جيناتنا بذور الانقسام والتسليم بأي معلومة حسب هوانا .. نختلف حول ناصر والسادات ومبارك وقبلهما فاروق والنحاس وسعدزغلول..
من ثم فإن الهجمة الشرسة التي تعرض لها الأطباء بعد أن كانوا في “بؤبؤ” العين مؤخرا ليست غريبة علي المصريين .. فهذا دأبنا .. لكن المفروض مع تطور الدنيا والعلوم السياسية أن يتعلم الصحفيون والسياسيون كيفية إدارة الأزمة .. خصوصًا إذا كانت مجهولة المعالم .. فالقبطان إذا رأي في المحيط قمة جبل ثلج فإنه يعيد “برمجة” كل شيء في السفينة .. عجلة القيادة والدفة والمحركات وتقليل السرعة لأنه مقدم علي “مجهول” .. سياسة التصادم مع المشكلات أو استعراض العضلات والإمكانيات غالبا ما تنقل للرأي العام إحساسًا خاطئًا بالمشكلة .. وعندما تكتشف الحقيقة يكون الوقت قد فات..
العدو الذي يواجهه العالم بفقرائه وأغنيائه خفي .. لذا فإن ضحاياه يتزايد ون بكافة الأنحاء لا فرق بين أمريكا وبريطانيا وألمانيا ومصر .. الوباء أكبر من امكانيات الأغنياء أصحاب الاختراعات ، فمابالك بالدول النامية .. في إدارة الأزمات لا تكشف أوراقك في البداية .. لأنك ستحاسب عليها إذا كانت الجائحة أكبر منها وهي كذلك .. لقد نوهت الحكومة أن هناك 100 مليار جنيه لمواجهة الوباء .. ثم اذا بها تدرس خصم 1% من المرتبات لمواجهة تداعيات الكورونا.. إمكانياتنا أقل من استيعاب الأعداد المتفاقمة للمرض الذي دخل فعلا المرحلة الثالثة .. فن الاحتواء هو المواءمة وليس المباهاة خصوصا وأنك لا تعرف ما تخبئه لك الأيام ..
لقد كان أحمد اللواح (52 عاما) أول طبيب مصري يتوفي بوباء الكورونا في 30 مارس وتبعه زميله أشرف عدلي أخصائي جراحة القلب ثم ثالث .. في 11 أبريل أصدرت النقابة بيانا تنعي أبناءها وتطالب وزيرة الصحة بإبلاغها أولا بأول بأعداد وفيات الأطباء لتقوم بواجبها نحوهم وناشدت الجهات المختصة توفير مستلزمات الوقاية لهم مع سرعة عمل المسحات .. كان بيانا عاقلا .. ثم توفي 19 طبيبا وقدم أطباء مستشفي المنيرة العام استقالة جماعية بعد وفاة زميلهم وليد .. هنا فقط تحركت الوزارة بعد الاستقالة والوفاة .. ودخل المغرضون والجماعة علي الخط لينفخوا في نار غضب الأطباء ووجدوا صدي للأسف .. والحقيقة أن الوزارة والمستقيلين متشابهان في التخلي عن الوطن .. وإن كان البعض يري – كالعادة – أن الاستقالة الجماعية هي التي سارعت بالتحقيق وتدخل السلطات العليا..
لا أحد ينكر أن للطبيب حقوقا كباقي المواطنين أبسطها أن يجد علاجًا لنفسه ومعاشا لائقا في حالة الوفاة .. لقد كنت ضد مسمي الجيش الأبيض لأني لا أعرف جيشا غير القوات المسلحة …. لقد أعاد الرئيس الاعتبار للمهنة وأطلق أسماء الشهداء علي مدارس ومشروعات وشوارع محبطًا مخططات متطوعي الإعلام والصحافة الذين وصفوهم بالخيانة والأخونة والعمالة..
ملائكة الرحمة اسمهم مستمد من الله سبحانه وتعالي .. هم ثروة قومية في كل البلاد المحترمة التي تقدس العلم والعلماء .. أنهم الصفوة .. يدرسون في بلادي 7 سنوات ثم فترة التجنيد ثم الماجستير والدكتوراة في رحلة 20 عاما علي الأقل .. لذلك كان خطأ بعض الإعلاميين والصحفيين فادحًا وهم يقارنون بين الجيش الأبيض والأصفر .. أو ما بين الخيانة والوطنية .. بل وذهبوا إلي أن نقابة الأطباء إخوانية وأن الجندي أشرف من الطبيب وأكثر وطنية .. ليس هذا وقت تجار الوطنية وإشعال الحرائق .. إن مطالب أطباء بحقوقهم لا يعطي أحدا مهما كان حق التطاول عليهم .. هذا ليس وقتكم .. إنه زمن الحكمة لاتقاء الفتنة .. لا يمكن أن تطلق تبريرات وتصنيفات في هذا التوقيت بعد استشهاد 19 طبيبا لم يجدوا وسائل حماية أو مسحات أو عزل .. ينبغي إنهاء هذا الاستقطاب الحاد لكل أفراد المجتمع .. أنتم الذين تهيأون ملعبا للإخوان .. ردود أفعال حادة ومناقشات عقيمة وأصبح البيزنس الوحيد المزايدة علي الوطنية وتصنيف أي رأي آخر بأنه خائن في استسهال مقيت .. وادعاء فج بالعلم والوعي.. والكارثة أنكم محسوبون علي النظام ..
رئيس الحكومة أجهض بيقظته الفتنة واستقبل نقيب الاطباء واستجاب لمعظم مطالبهم .. اذا وفرت للأطباء ما يحتاجونه فليس خوفا من فتنة يثيرها ويحركها إخوان الداخل والخارج ولكن لأنها حقوق أصيلة لهم .. ليس سرا أن الحكومة بدأت تواجه أعنف موجة للوباء مع ندرة الأماكن بالمستشفيات إلا بواسطة .. وعلي الإعلام التوقف عن توزيع صكوك الوطنية علي الأطباء فليس هذا وقته…
أن مشكلة الأطباء مع الدولة بدأت قبل الكورونا بكثير حيث اعتاد الأهالي ضربهم إذا أصاب مريضهم مكروه بدون أي حماية .. ننتظر قرارا من الرئيس بفتح فنادق الجيش والمستشفيات العسكرية كأماكن عزل .. مطلوب تدريب إعلاميين وصحفيين الحكومة علي كيفية مواجهة الأزمات وعدم إجراء مقارنات مع دول أخري ..فاطباء اسبانيا رفعوا قضية ضد الحكومة 11 ابريل الماضي لتقاعسها عن توفير الامكانيات للمصابين بعد أن بلغت الاصابات 11 الفا.. ومرتب الطبيب البريطاني المتخصص حوالي 200 الف استرليني سنويا..
ينبغي أن يكون أول قرار بعد إنتهاء الكورونا إن شاء الله تخصيص أكبر بند في الموازنة للبحث العلمي والصحة .. فالعلماء والأطباء هم القلاع البشرية ضد الأمراض والأوبئة .. ويبقي أن يعلم المسئولون أن الصحافة بالأساس صناعة معلومات وأفكار وليست نقل تعليمات..
الاحتفاء بريف المعلومة جريمة تدل علي حجم الخواء المهني .. يقول الإمام علي رضي الله عنه “كفي العلم شرفا أن يدعيه من لا يحسنه ويفرح إذا نسب إليه من ليس من أهله .. وكفي بالجهل عارا أن يتبرأ منه من هو فيه ويغضب لو نسب إليه”..