نهرا النيل والدانوب.. يتشابهان في عدد الدول التي يمران فيها، فيمر نهر النيل بـ ١٠ دول إفريقية هي: الكونجو الديمقراطية.. بوروندي ورواندا وتنزانيا وكينيا وأوغندا وإثيوبيا وجنوب السودان (بعد انفصالها عن السودان).. والسودان وينتهي في مصر.
بينما يمر نهر الدانوب فى 10 دول أوروبية هي: ألمانيا (البداية) والنمسا وسلوفاكيا والمجر وكرواتيا وصربيا ورومانيا وبلغاريا ومولدوفا وأوكرانيا.
النهران يختلفان في الطول والثقافة، فالدانوب طوله 2860 كم.. والنيل طوله 6650 كم.
أما من ناحية الثقافة.. فلا أجد أفضل من التدليل على الفرق الواضح بينهما، بمثال سهل المعنى والمغزى.. ألا وهو أن نهر الدانوب بُني عليه أكثر من 700 سد، تقريباً على معظم روافده.. وتقريبًا داخل كل البلدان الأوروبية التي يمر بها.. ومع ذلك تجده يصل إلى مصبه في البحر الأسود دون عناء أو مشكلات أو حروب.
لدرجة أنه في عام 2004 اتفقت الدول المطلة على نهر الدانوب على حمايته من التلوث وتنمية المناطق المطلة عليه.. حتى تختفي منه أية شوائب أو روائح فتحولت مياهه إلى النقاء أكثر، وصار مبهجا أكثر وأكثر.. وتغنى له وبه المطربون وصنعت له وعنه القصص والروايات.. يتهادى عليه المحبون، كما تتهادى ريشة فنان مليئة بالألوان الجميلة على لوحة بيضاء نقية.
والمعنى واضح، الأوروبيون يستمتعون بالاتفاق خاصة أن التنمية ستظلل أوراقها على الجميع.. وحتى أنهم لم يتفقوا فقط على ترك الحروب والإتيان بالحل بالحكمة والنقاش والحضارة، بل اتفقوا أيضا على ألا يلوثوا واحدًا من أجمل أنهارهم.. ألا يبصقوا فيه كما هي نصيحة المصري القديم للفلاح المصري بألا يبصق فى النهر الذي يشرب منه.
بالطبع كانت هناك مشكلات تاريخية بين الدول الأوروبية فيما بينها على استغلال موارد نهر الدانوب .. وآخرها عام 1997؛ حيث حدثت مشكلة بين سلوفاكيا والمجر بشأن استغلال النهر.. لكن كل منهما اتفق على اللجوء إلى محكمة العدل الدولية، والتي أصدرت حكمها فى النهاية، بأن معاهدة بودابست عام 1977 ملزمة لكلا الطرفين دون استثناء.
هذا ما نسميه الثقافة أو الحضارة أو تطور تفكير الإنسان الأوروبي جعلته يلجأ إلى العقل لا إلى الحرب.. إلى الحكمة والاتفاقيات بدلًا من محاولة فرض الأمر الواقع، أو إلى التلويح بأنه الأمر الناهي على نهر منحه من الله سبحانه وتعالى، لكل الدول المطلة عليه.
يبدو أن إفريقيا لم تتعلم الدرس بعد، فبينما تنتشر الحروب الأهلية في دول إفريقيا من فترة لأخرى فتقضي على البلاد والعباد، فإن تلك الظاهرة اختفت من أوروبا منذ أيام الحرب الأهلية الإسبانية والتي بدأت في 18 يوليو 1936 واستمرت 3 سنوات.
هناك من يدق طبول الحرب في إفريقيا خاصة على المياه، والحمد لله ليس هناك استجابة لدخول هذه الحرب.. لكن إثيوبيا حتى الآن وبعد 9 سنوات من المفاوضات بينها وبين مصر، لا تريد أن تضع حدًا للعنت والصلف وتحاول جاهدة أن تُملى شروطها.. ولكن هذا الأمر غير وارد على دولة بحجم وقوة مصر.. وعلى نهر دولي بحجم نهر النيل .. الذي سبق نهر الدانوب بوجود حضارة عليه.
والدانوب هو نهر العواصم كما يطلقون عليه في أوروبا نظرًا لمروره بأكثر من عاصمة أوروبية؛ وهي فيينا وبلجراد وبودابست وبراتسلافا.. ولأن العواصم هادئة وهانئة وفرحة.. فكتب له وعنه الشعراء وتغنى باسمه المغنون والحالمون والمثقفون.
وغنى للنيل عبدالوهاب أغنيته الشهيرة النيل نجاشي في محبة إثيوبيا ونسبة إلى حاكم إثيوبيا العادل النجاشي، وكتب القصيدة آنذاك أمير الشعراء أحمد شوقي.. أما اليوم فربما يرد أحمد شوقي على إثيوبيا بقوله:
إِلامَ الخُلفُ بَينَكُمُ إِلاما / وَهَذي الضَجَّةُ الكُبرى عَلاما
وَفيمَ يَكيدُ بَعضُكُمُ لِبَعضٍ / وَتُبدونَ العَداوَةَ وَالخِصاما