في ظل حالة الإنهيار التي عرفها تنظيم الدولة (داعش) في كل من سوريا والعراق، سعت القيادات المتبقية من عمليات التصفية والمطاردة إلى تشكيل قوتها من جديد، وذلك من خلال محاولة إيجاد ملاذات آمنة أخرى ومنصة تنطلق منها عمليات العنف الأسود، على أن تكون القارة السمراء مسرحا لها، وهي التي تعيش أوضاعا أمنية غير مستقرة نظرا للإنتشار المتنامي للكثير من الجماعات والتنظيمات الإرهابية، على غرار كل من: بوكوحرام، القاعدة، حركة الشباب في الصومال.. وغيرها .
ولم تكن في أفريقيا دولة تنافس الجارة الشقيقة ليبيا ، من حيث مميزات التمركز والتمدد لعناصر التنظيمات الإرهابية وفي مقدمتها داعش ، حيث تتقاتل على أراضيها حكومتان من أجل السيطرة على البلاد بعد إنهيار نظام القذافي، في إطار إنتشار أفقي وعمودي للجماعات المسلحة، والتي تمكنت من فرض نفوذها في الكثير من المساحات الجغرافية الليبية، على أثر تفكك وتراجع السلطة المركزية ، والتي أسست لثغرة كبيرة استفاد منها تنظيم الدولة ” داعش” لينشىء موطئ قدم عليها: حيث أقام المقاتلون الليبيون العائدون من سوريا والذين تربطهم صلات بالتنظيم الدولة معقلا جديدا لهم الأراضي الليبية، وأشارت التقديرات الأمنية إلى أنه وجود ما يقارب 3000 مقاتل موال للتنظيم كانوا يقاتلون حاليا في ليبيا، من بينهم 300 عنصر عائد من سوريا والعراق ، الأمر الذي منح التنظيم في ليبيا فرصة تاريخية لتزايد وتيرة نفوذه، خاصة وأن من بين الذين تسللوا إلى أراضيه، في مدينتي درنة وسرت مجموعة من كبار قادة تنظيم الدولة، الذين نجحوا حينها في تجنيد وتنظيم صفوف المتطرفين هناك، وأصبحت ليبيا وبفضل موقعها الإستراتيجي الهام أرضية خصبة ينطلق منها المقاتلون المحتملون من مختلف أنحاء جغرافية شمال أفريقيا في سعي منهم للإنضمام إلى داعش، ليستتب لهم بعد ذلك أمر الحصول واكتساب الخبرة القتالية الكافية .
ومن ليبيا أطلق الإرهابيون عناصر التنظيم المدربة إلى الجارة تونس، التي جعل منها إسقاط نظام بن علي خزانا كبيرا مصدرا للمقاتلين إلى الجغرافيات المشتعلة خاصة في منطقة الشرق الأوسط، فمن بين ما يقرب عن 3000 تونسي سافر للقتال في سوريا والعراق – وذلك حسب التقديرات الحكومية التونسية – هنالك حوالي 1400 منهم عادوا إلى وطنهم ، علما بأنه، في وقت سابق، إنحاز المتطرفون في هذا البلد أساسا إلى جماعة أنصار الشريعة – والتي إتهمتها إدارة واشنطن بمسؤوليتها عن هجوم عام 2012 على بعثتها الدبلوماسية في بنغازي بشرق ليبيا- ومقاتلي جماعة عقبة بن نافع، الذين ينشطون في جبال الشعانبي المتاخمة للحدود الجزائرية، فالعديد من المتطرفين في تونس ينضوون تحت لواء جماعة أنصار الشريعة وهم في نفس الوقت يتبنون رفع راية الدولة الإسلامية ” داعش” ،إلا أنه لا يمكن أن نجزم، بوجود هيكل تنظيمي للتنظيم في تونس، بل كل ما هو مؤكد يتعلق بمجموعة من الأشخاص منجذبين نحو فكرها العقائدي.
ومع هذا التمدد المرعب لتنظيم داعش وعناصر التنظيمات الأخرى الأكثر والأقل تطرفا في الداخل الليبي، إنطلقت تلك العناصر المتطرفة لتنفيذ عمليات إرهابية، إستغلالا لحالة السيولة التي شهدتها مصر بعد أحداث يناير 2011 ، ثم إستيلاء تنظيم الإخوان الإرهابي على السلطة ، وما قدمه من تسهيلات وغطاء المتطرفين، حتى تمكنت مصر من إستعادة روحها بفضل قواتها المسلحة الباسلة وقادتها الأبطال المخلصين، حيث وجه أبطال مصر ضربات موجعة لتلك العناصر الإرهابية، كما دعمت الجيش الوطني الليبي في عملياته لفرض الأمن وتنظيف مناطق الشرق من العناصر والخلايا الإرهابية.
ومما لا يدعو مجالا للشك أن الرسائل القوية الاي رسمت بها القيادة المصرية الحكيمة للرئيس عبدالفتاح السيسي خطوطا حمراء تحدد مناطق أمنها القومي التي لا يجب المساس بها، هي ما جعلت قادة هذه المليشيات إتجهت لمشروعا شيطانيا بديل ، تحالفت فيه قوى دولية وإقليمية بهدف إعادة توطين الإرهابيين الفارين من جحيم الملاحقة في الشقيقة سوريا بالداخل الليبي، وإعادة تمركز عناصر داعش وغيرها من التنظيمات الإرهابية لإكمال إحراق ليبيا وجعلها نقطة إنطلاق إلى مناطق أخرى تنتظر نصيبها من حرائق الإرهاب، الأمر الذي جعل بوصلة المخططات تبحث عن وجهة أخرى وأرضا أخرى تستوعب التنظيمات الإرهابية وعناصرها المتعطشة للدماء وأحلام الخلافة الموعودة .
ولم يكن من المستغرب أن تكون أفريقيا ومناطقها الرخوة ساحة جديدة وملائمة تستوعب هذه التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها داعش، حيث نجحت تلك التنظيمات في إيجاد حلفاء لها، مهدوا الأرضية المناسبة لتمدد التطرف والإرهاب في الداخل الإفريقي المهتز، فزعيم حركة “بوكوحرام” في نيجيريا أبو بكر شيكاو، أعلن قبل سنوات مبايعته لزعيم تنظيم “داعش” الإرهابية، أبو بكر البغدادي، على السمع والطاعة، ليعتبر بذلك جزءا من “الدولة الإسلامية” التي دعا إليها البغدادي إنطلاقا من منطقة الشرق الأوسط لتشمل رقعة جغرافية واسعة تمتد على عموم آسيا وأفريقيا وأوروبا، لتحقق الخلافة الإسلامية على تلك الأراضي بعد إزالة الحدود، وإذ يعتبر ذلك التحالف أمرا طبيعيا، خاصة وأنه يعود أساسا لوجود عدة عوامل مشتركة بين الحركتين، تعكس في واقع الأمر تلاقي فكرهما الإرهابي، وتقوي في نفس الوقت روابط التقارب فيما بينهما مثل الإنشقاق والتمرد على التنظيمات الإرهابية الكبرى: وذلك قصد الإنفراد بأسلوب ونمط (جهادي) خاص بها ، وهو الأمر الأكثر بروزا عند كل من “داعش” و”بوكوحرام”: ففي حين رفض تنظيم داعش الإعتراف بزعامة ونهج “أيمن الظواهري” بحكم أنه زعيم أكبر تنظيم إرهابي في العالم “القاعدة” ، لم تكن قضية الولاء واضحة بالنسبة إلى “بوكوحرام” والتي كانت تسمى “طالبان نيجيريا” أو “جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد” ، فكلتا الحركتين عملتا من أجل التمرد على تنظيم القاعدة، محاولة في أول الأمر تقليده، لتؤسس طريقا خاصا بها فيما بعد ،
بالاضافة إلى إنتماء قادة الحركتين إلى الجيل الثالث من الإرهابيين حيث كلا من “أبو بكر شيكاو و”أبو بكر البغدادي” ينتميان إلى الجيل الثالث من قادة التنظيمات المتشددة ، نظرا لطبيعة الأفكار الجهادية التي يحملانها والخاصة بهما، فمنها ما يتعلق بممارسة العنف المفرط العابر للحدود، وهذا من خلال إنتهاجهما لأساليب ووسائط قتالية جديدة (على غرار كل من إستغلال النساء في العمليات (الجهادية)، إلى جانب الإستثمار الإستراتيجي في العاملين الديني والطائفي) ، كما أن كلتا الحركتين تعملان – حسب خطابهما – من أجل إقامة الخلافة الإسلامية وهذا عن طريق ممارسة العنف المسلح: وعلى الرغم من كونهما تشترك مع بقية التنظيمات الإرهابية الأخرى في نفس الهدف والخطاب، إلا أنهما بالمقارنة مع تلك التنظيمات كانتا تتحركان بصورة عملية من أجل إعلان الخلافة على كل أرض حلت فيها .
ومنذ وصول الإرهاب إلى بوابات القارة العجوز، أواخر عام 2015، نجح تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام الإرهابي ” داعش” في كسب دعم وتأييد واسع من قبل الجماعات المتشددة في ليبيا، ليتسنى له بعد ذلك السيطرة على مدينة “سرت” (معقل الرئيس الليبي السابق “معمر القذافي”)،حيث تمكن من خلال ذلك أن يجند الآلاف من المقاتلين وضمهم إلى صفوفه، هذا إلى جانب إقامة العديد من معسكرات التدريب لينتقل بعد ذلك إلى مرحلة جديدة – وهذا بعد أن أمن عملية إنتشاره وتوسعه الكبيرين على الأراضي الليبية – عكف من خلالها على الإعداد والتخطيط من أجل التحول إلى كل من منطقة شمال أفريقيا وأوروبا وذلك في إطار ما يسميه التنظيم ب”الغزوات الجهادية”. كتيبة تحرير ماسينا وإتساقا مع الموقف الرافض للارهاب، خاصة وأنه يمثل تهديدا مباشرا للأمن القومي المصري، عبرت الدول الأوروبية عن قلقها حيال إنبعاث تنظيم الدولة في القارة الأفريقية، لتتبعها بعد ذلك الولايات المتحدة الأمريكية – والتي سارعت بطريقة أو بأخرى من أجل تقديم مخرجات وحلول تهدف إلى وقف عملية تمدد تنظيم داعش في قارة غارقة في الفوضى السياسية والأمنية، خاصة بعد سقوط نظام القذافي، على أن يكون الخيار العسكري أحد الحلول المهمة المطروحة على طاولة إجتماعات تلك الدول، وهذا في حالة تشكيل حكومة وحدة وطنية على الأرض الليبية، أو بالرجوع إلى إيعاز يأخذ شكل تفويض سياسي من طرف أية حكومة ليبية، فيما إعتبرت فرنسا والتي لها علاقات ومصالح متميزة مع العديد من دول القارة السمراء، أنه على بقية الدول الأوروبية أن تتحمل مسؤولياتها تجاه ما يتعلق ومسألة مكافحة الإرهاب وعدم الإستقرار في أفريقيا، وذلك من خلال تقديم الدعم الكافي من أجل أمن القارة، مؤكدة ضرورة التحرك نحو مناطق الأزمات المتاخمة وحتى البعيدة منها عن الأراضي الأوروبية، علما بأن الإتحاد الأوروبي أبدى تأييده للجهود التي تقودها الأمم المتحدة لإنهاء الصراع في ليبيا، في ظل إضطراب مواقف دول المجموعة الأوروبية حيال التدخل العسكري في ليبيا وذلك من أجل إرساء خارطة سلام، في حالة ما إذا كللت مساعي الوساطة الأممية بالنجاح أو الفشل .
أما على الصعيد الأفريقي، فاعتبرت اللجنة الأفريقية للأمن والإستخبارات، والتي تدعم وتساعد الإتحاد الأفريقي في مواجهة التهديدات الأمنية، أن هنالك ما يقرب بين 20 إلى 40% من المقاتلين الإرهابيين الأجانب ممن عادوا إلى بلدانهم إنطلاقا من الأراضي السورية والعراقية ومناطق ساخنة أخرى، وهذا بعد أن شاركوا في القتال إلى جانب تنظيم داعش، معتبرة في نفس الوقت أن كلا من المقاتلين الإرهابيين الأجانب، المرتزقة والمنظمات المارقة عبارة عن مثلث الرعب في القارة الأفريقية، الأمر الذي يؤكد أهمية البحث عن إستراتيجية إقليمية فاعلة من أجل مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، خاصة وأن تقارير اللجنة أشارت إلى أن هنالك الآلاف من الشباب الإفريقي المنضوي تحت لواء مجموعات إرهابية عديدة، على غرار تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، وهو ما قد يشكل تهديدا حقيقيا بالنسبة لأوطانهم، خاصة وأن أعدادا كبيرة منهم حاملين لجوازات سفر غربية، وهو ما يسمح لهم بالتنقل عبر أراضي القارة الأفريقية بكل سهولة، وهو أمر حسب نفس اللجنة يقتضي حزما وسرعة في التحرك تفاديا لأية عواقب أمنية مفاجئة .
أما بالنسبة لما يتعلق بالموقف الأمريكي، فلا تزال “إدارة البيت الأبيض” تحتفظ لنفسها بوضع المراقب للأمر، معتبرة في نفس الوقت أنه على الرغم من كون تنظيم الدولة الإسلامية قد عرف تراجعا في كل من العراق وسوريا، إلا أنه لا تزال عملية تجنيد عناصر محلية جديدة في صفوف التنظيم متواصلة، وهو أمر من شأنه أن يمكنهم في المستقبل القريب من تنفيذ هجمات إرهابية دون أن يكلفهم ذلك عناء أي تنقل، فبالنسبة إلى الإدارة الأمريكية تهديد داعش سوف يستمر، غير أنه سيتخذ لنفسه نمطا مغايرا ، وإذا كانت مصر بإعتبارها قوة إقليمية عظمى قد تمكنت من أبعاد خطر الإرهاب عن حدودها، ودفعت بمن يتولى أمره إلى البحث عن ملاذات أمنة جديدة لعناصر التنظيمات الدموية، التي أصبحت وفقا للمراقبين تتمركز في أفريقيا، إلا أن الأمر الخطير يتطلب جهودا دولية مضاعفة، فلقد أثبت التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية أن إستراتيجية حربها على التنظيم في العراق وسوريا لا تعد إستجابة كافية لهذا النوع من التهديدات الذي يشكلة تنظيم” الدولة ”، والذي أضحى يخيم على دول أفريقيا (خاصة بلدان شمال أفريقيا) وأوروبا، فمن المهم الآن في ظل إستراتيجية أكثر حزما لمواجهة التنظيم، أن نتصور تعاوناً أوثق بين البلدان المعنية بهذا التهديد، وذلك في إطار دعم الدول الصديقة، إذ يجب التفكير في عملية تبني إستراتيجية مشتركة وفاعلة أمام كل الأساليب الإرهابية وجميع الأسباب الجذرية التي أدت إلى ظهور وتمدد داعش وغيرها من الحركات الإرهابية، وربما يأتي الإعلان مؤخرا عن وصول 300 جندي بريطاني إلى جمهورية مالي المضطربة الواقعة في غرب القارة الأفريقية في وقت يبدو أن تنظيم الدولة الإسلامية قد نقل مركز نشاطه من الشرق الأوسط إلى قلب القارة الإفريقية، في إطار عملية عسكرية تسمى “نيوكومب” وتستمر لمدة 3 سنوات وينضمون إلى قوة متعددة الجنسيات تابعة للأمم المتحدة مكونة من 15 ألف جندي بقيادة فرنسية، يأتي بهدف ضمان الإستقرار في منطقة جنوب الصحراء الكبرى التي تعرف أيضا بمنطقة الساحل، وذلك لأن مالي ليست سوى واحدة من الدول التي تواجه حاليا تصاعدا مضطرداً في عمليات ونشاط الجهاديين ويتسع نطاق أعمال العنف بشكل متزايد .
وحسب نشرة “مؤشر الإرهاب العالمي” التي نشرت في نوفمبر الماضي، نقل تنظيم الدولة الاسلامية “مركز ثقله” من منطقة الشرق الأوسط إلى القارة الإفريقية وإلى جنوب القارة الآسيوية بدرجة أقل، حيث شهدت منطقة الساحل هذا العام زيادة في أعمال القتل بنسبة 67 في المائة مقارنة بالعام الماضي .
ووفقا لتقارير إعلامية غربية فإن نمو الجماعات المرتبطة بتنظيم الدولة الإسلامية في منطقة الساحل أدى إلى تصاعد وتيرة الأعمال الإرهابية في العديد من بلدان المنطقة” وتقع سبع دول من الدول العشر التي شهدت تصاعدا في الأعمال الإرهابية في جنوب الصحراء الكبرى هي بوركينا فاسو وموزمبيق وجمهورية الكونغو الديمقراطية ومالي والنيجر .