من مفارقات القدر الجميل ان وضع في طريقي ومع اول ايامي في عالم الصحافة في الجمهورية نموذجين متفردين من القضاة ..
الاول في منتصف الثمانينيات.. واحد من جيل القضاة العظام واحد رجالات القضاء الشرعي المشهود لهم وممن يشار اليهم بالبنان ..
والثاني وفي اخر السلم عندما توليت رئيس تحرير عقيدتى ساق الي مستشارا آخر واحد رجالات القضاء المصري النادرين والمدهشين على المستويين العلمي والعملي والاخلاقي في زمن يعز فيه اشياء كثيرة في مختلف ميادين الحياة ومعاركها ..
المستشار الاول واسمه الشيخ القاضي عبد المقصود شلتوت وكان من اواخر من جلسوا على منصة القضاء الشرعي قبل التفكيك .. وكان رجلا ذا مهابة وشخصية قوية وزاده الله بسطة في العلم والجسم وكان معتزا بنفسه يحفظ لها هيبتها ويصون كرامتها بكل ادب واحترام وتواضع جم ..
تعلمت منه اول دروس في ادب القاضي والتقاضي وكيف تكون شخصية القاضي وكيف يعيش في مجتمع تتقاذفه امواج الفتن والرذائل وكيف ينأى بنفسه ويصون عرضه وكرامته عن القيل والقال وهو يسعى لتحقيق العدل .. دون ان تشغله قضية سعة ذات اليد او اي ضائقة يتعرض لها القضاة والقضاء ايضا ..
وكان يزورنا في القسم الديني بالجمهورية اذ كان صديقا لاستاذي الحاج عبد اللطيف فايد رحمه الله وكان يكتب ايضا في مجلة منبر الاسلام التى تولى رئاستها الحاج عبد اللطيف وكنت احد مساعديه .. وكان المستشار شلتوت على ما اذكر عضوا بالمجلس الاعلى للشئون الاسلامية ايام المستشار جمال الدين محمود الامين العام الاسبق للمجلس .. وكان المستشار شلتوت عالما فقيها دقيقا مدققا توقفه الفصلة والنقطة في مكانها ويتحرى الدقة خاصة في الاحكام الشرعية وعندما يتعرض للقضايا المختلف فيها والتى يثار حولها الجدل ..
اما المستشار محمد خليل – الذي رحل عن دنيانا منذ ايام – فقد توثقت علاقاتنا من اول نظرة كما يقول اهل الغزل ومع كل يوم تزداد اواصر الحب ويمتد الود حتى صرنا اصدقاء بحق ..
المستشار خليل شخصية فريدة ومتفردة بين اجيال القضاة المعاصرين .. كان رئيسا لمحكمة الاستئناف ..ولم يكن هذا التفرد والتميز وليد الصدفة بل صنعه صناعة وانشأه انشاء بحرص ودأب وقدرة وتمكن ايضا وقد ساعده على ذلك بما يملكه من شخصية سوية نجت من اوهام الغرور والتعالي وخيلاء ابراج عاجية مزعومة احترف اللعب بها وعليها كثيرون من اصحاب النفوس الضعيفة ممن اساءوا لانفسهم ولوثوا ثوب مهنتهم بدم بارد وهم يعلمون وربما لا يشعرون ..
اذهلتني بساطة الرجل وتواضعه منذ اللحظات الاولى بصورة تجعل الشك يتسرب اليك انه ينتمي الى القضاء .. لكنه يفاجئوك بتدفق هائل ورائع من الثقافة الموسوعية تنسيك ما تفكر فيه .. فهو يعمل بالقضاء ويحمل قلب وعقل شاعر فياض بكل ما له علاقة بامور انسانية .. فاذا حدثته في الشعر فانت امام شاعر مجيد يملك لغته ويضبط عاطفته ولا تعدم منه رقة وطرفة وعذوبة في التعبير تعكس روحا شفافة ونفسا مطمئنة.. نجحت روح القاضى ان تضبط حالة القلق وتضعه في المسار الايجابي بعيدا عن حالات نزوع وزيغ ونزوغ تضرب الشعراء تجعلهم من فصيلة في كل واد يهيمون ..
جمعنا ووحدنا حب الشعر فانا احب الشعر ولا اقرضه .. كان يحفظ كثيرا من الاشعارلشعراء كثر.. اهدانى مجموعة دواوينه وكاد يطير فرحا عندما اخبرته بان تشابها في الروح والشاعرية مع الشاعر الكبير صالح الشرنوبي ..وانني احب شعر جودت وبين الحين والاخر اردد واطالع بعض قصائده من الاعمال الكاملة التى نشرتها قديما سلسلة تراثنا عن دار الفكر العربي ثم اعادت الهيئة العامة للكتاب نشرها ثانية في السنوات الاخيرة ..
وكان هو ايضا متيما بالشرنوبي مولعا برقته وانسيابية مشاعره وروح التحدي للظروف القاهرة .. وعندما كنا نلتقي او نتحدث هاتفيا كان لاشعار صالح الشرنوبي نصيب كبير..وكان يدهشنى بتلك الذاكرة والحفظ لبعض القصائد ومناسباتها وما اثارته من ردود ..
كان مشغولا بالهم الثقافي وحزينا على ما وصلت اليه الاوضاع في دنيا الثقافة والقضاء وهو ما انعكس على كثير من مفاصل الحياة والمستوى العام هنا وهناك حتى فقدت ساحات الثقافة والمحاماة ومنصات القضاء الكثير من انوارها ونجومها بعد ان سادت ثقافة الاستسهال والاستعجال وضغطت امور كثيرة على الحياة العملية وازدحمت الدنيا بالملفات واصبحت فوق طاقة الاحتمال ..
ولذلك كان سعيدا غاية السعادة حين طلبت منه ان يكتب عن عالم القضاء والمحاكم ودنيا البشر وحالة الاشتباك المجتمعي والثقافي والانساني وان يقدمها بروح القاضي وشاعرية الاديب والتزام الحريص المتمسك باهداب الدين الساعي الى الارتقاء بالقيم واصلاح ما انحط وانهدم في منظومة الاخلاق ..
لم يكن مصدقا في البداية فهذه اول مرة يطلب منه ذلك على حد تعبيره.. بدا مندهشا يغالب حيرة حاولت ان تربكه الا انه تخلص منها سريعا .. وقبل التحدي رغم علمه بصعوبة الاشواك والسير في وسط حقول للالغام ربما لا ترحمه وقد تعرضه لان يسلكه الزبانية بالسنة حداد ..
ربما كان معه بعض الحق لأننا كنا في وقت كل شيء تحت المجهر وبحساب دقيق وفي زمن مبتلى بأصحاب التأويل الخبيث ومحترفي التشويش وربما بالوشاة ومعدومي الضمير ودعاة التنكيل والذين يسوؤهم اي شعاع من نور وتستهويهم ظلمات العتمة ورائحة العفن الضارب والمخيم في بعض الاطناب.
وبسرعة سريعة توطدت علاقة المستشار محمد خليل بكبار الكتاب والمثقفين في الجمهورية واصدارات دار التحرير وكل يوم يحدثني بشغف وحب ايضا عن حوارات جادة وممتعة مع الاساتذة الكبار محمد العزبي ومحمد جبريل ومؤمن الهباء وغيرهم وحواراته التى لا تنقطع مع الزملاء الاعزاء جلاء جاب الله ومصطفى عمارة وزياد السحار وفريد ابراهيم وسيد حسين وغيرهم وكان سعيدا للغاية بما يدور من مناقشات ثرية حول قضايا الساعة والهم العام حين كان ياتي للجمهورية لتسليم مقاله الاسبوعي..
رحم الله الصديق العزيز المستشار محمد خليل الذي افتقدته كثيرا شخصيا وخسرته الساحة الثقافية وساحات القضاء الجالس والواقف على السواء ..
واجزل له العطاء واسكنه فسيح جناته وخالص العزاء لابنائه الاعزاء وأجزل ولكل محبيه ..
والله المستعان .
Megahedkh@hotmail.com