صراع الذات أريد ولا أريد، أرغب ولا أرغب، أقدم ام أحجم، والعديد من التناقضات، التي لامعنى لها هي جزء من صراع الذات التي تكبر مع الاحلام وتكبر مع الامنيات وربما تكبر مع ما يُمنيه بك الاخر . في ظل هذا الصراع الكبير يحدث ان يتخلى الانسان عن مسئوليات ما، او يقدم على أعمال يعتقد انها ستحقق ذاته فيبقى الصراع شديد في للحظة التي يعجز فيها الشخص عن تحقيق ذاته .
كيف يمكن لك ان تحقق ذاتك ضمن منظومة الذوات المتعددة الاجتماعية والشخصية التي ترتقي لتقدير الذات واحترامها. انه ذاتك انت الذي يجعلك تكون راضيا وتكون مقتنعا بل وراغبا في المزيد من العمل من اجل الوصول الى تقدير الذات واحترامها .
يبدأ احترام الذات منذ الصغر وخاصة من القواعد التي يعمل المجموع على غرسها في الانسان منذ النشأة ( التربية ) مجموعة الاوامر والنواهي ، الحرام والحلال ، العادات والتقاليد ، وكل هذه القواعد ليست بالضرورة ان تكون قواعد صحيحة فليست العادات والتقاليد التي تغرس في الفرد من الممكن ان تكون عادات ترضي ذاتك، ربما لأنها بالية او لأنها لا تتوافق مع الزمن او لأنها عائق امام التطور المدني المحافظ على قيم المجتمع فليست كل القيم مرفوضة .
سيبقى صراع الذات كبيرا طالما تؤمن وتعتقد وتعمل من خلال مجموعة من القيم الصحيحة مقابل مجموعة تبنت الخطأ طريقا للعمل وتبنت الخطأ كونه صوابا لا يمكن الرجوع عنه . ويبقى الخطأ والصواب ذاته يحتمل الخطأ والصواب .
ولكن الطبيعة الانسانية في داخلها تكون مرتاحة وراضية عند ممارسة الحق فتلك هي الحقيقة هي ما يرضي ذاتك التي تربت جيدا والتي نهلت من القواعد والقيم المنطقية . أن يكون نبي الفكرة أن يمهد لرسالات فكرته، وأن يعي أولا مدى تقبل عقلية مجتمعه لتلك الفكرة أية فكرة قد تكون غريبة في نظر محيطه، ولما كان الإنسان ابن بيئته فإنه كذلك بطبعه مدني اجتماعي يحب
أن يتعايش في هذه الحياة يحمل بين جنباته عقيدة ومبدأ وفكرا، وتختلف من شخص إلى أخر مدى قوة إيمانه بهذه الركائز الوجودية للإنسان كإنسان مجتمعي متقبل للتغيي؛ فمنهم من يؤمن بعقيدته دون إيمانه بالمبدأ والفكر، وهنا قد ينطبق على هذا الإنسان مسمى الإنسان الفطري البحت، ومنهم من يؤمن بعقيدته ومبدئه دون الفكر، وهنا قد ينطبق عليه مسمى الإنسان الثابت والمتعايش مع ذاته فقط، لا يهمه متغيرات عالمه من حوله،
وهناك من يؤمن بالمعتقد والمبدأ والفكر؛ وهذا الإنسان المنشود في تأسيس حضارة إنسانية واعية متقبلة للتغيير رافضة للتقليد، فعقيدة دون مبدأ شبيهة بإنسان ناقص الأهلية، فتعامله محدود في عالم مليء بمتغيرات كثيرة ومعقدة، وعقيدة دون فكرة كإنسان منعدم الأهلية فتعامله منعدم لا وجود له، ولا يمكن لها أن تحدث أثراً في بيئته، هكذا الإنسان بطبعه وركائز الوجود الإنساني الثلاث عقيدة، ومبدأ، وفكرة، يعيش الصراع مع ذاته إن كان ذا تميز في ركائزه، إما إيجاباً بالتوافق مع مجتمعه فيحتم عليه الواقع التباهي بالصفات التي قد يرضى عنها مجتمعه فقط دون ذاته، أو سلبا إن كان مخالفا مناقضاً وثائراً على عادات مجتمعه وبيئته؛ فيعيش حالة الشذوذ التعايشي والانفصال عن بيئته.
يعيش الانسان تقلبات عديدة يستغرب منها حتى اقرب الناس اليه، وما هي هذه التقلبات الا بحث عن الذات، فيصبح سعيداً ويمسي غاضباً، يسخط على الوجود ثم يمدحه بعد قليل، يتذبذب بين هؤلاء وهؤلاء، ليس حباً فيهم بل بحثاً عن نفسه. وبتتابع امواج الاحداث يبدأ هذا الكائن الناطق بفهم نفسه، فتستقر افكاره على شيء محدد، ولو لفترة قصيرة من الزمن قبل ان تعود عواصفه لتتلاعب بمركبه، وليس هذا الا لان الانسان من يوم ولادته الى يوم وفاته يكون كالبحار، يبحث عن مستقر لأفكاره.
ليس ثمة طريقة محددة لفهم الذات ولا يمكن وصفها لك في سطر او في كتاب بألف صفحة، انه طريق خاص بك انت وحدك، عليك ان تجده وتبحث عنه، ولا يمكن لاحد ان يدلك عليه. انه ليس كالاسم، يهدى اليك فتتعايش معه وترضى به وما ذاك الرضى الا لانك تظن انك ذاك الاسم بحروفه المتعددة، ولكن لا يمكن لثلاث او اربع حروف ان تصف ذاتك. الطريق الى فهم الذات صعب وطويل، مليئ بالاختيارات والابواب المغلقة، وبكل انواع الاستقطاب والاسربة المكذوبة، ولكن البداية واحدة لكل باحث عن نفسه، وهي ان الله هدانا النجدين، ام الخير واما الشر.
ولكن المشاكل تبدأ فور فهمك لهذين الاختيارين، فما هو الخير وما الطريق اليه، وما هو الشر وما الوسيلة للابتعاد عنه؟ من يحدد الخير ويصفه؟ ومن يمنع الشر ويجليه لك؟ وهنا لا يمكن فهم الخير والشر بدون فهم الانسان ان به قوة لا يمكن مقاومتها، وهي الشهوة، فالإنسان بطبيعته يكره القيود ويرغب في طمسها ولربما احب وجودها احياناً لكي يكسرها، وما اكل آدم للشجرة الا دليل على وجود الغريزة في كل واحد منا، وانها تلك الرغبة الغير مبررة التي تستحوذنا لفعل اشياء غير منطقية حتى ولو طلب منك حرفياً ان لا تفعلها، ولكن نفعلها اما لأننا نسينا انها محرمة او لأننا لم نستطع ان نتحكم في انفسنا. وبهذا يكون هناك بين الخير والشر رغبة ونازع قوي، وصلاح البشر يقاس بقدرتهم على التحكم بهذه الرغبة.
وعند فهم الانسان لضعفه امام رغباته يدرك تماماً ان الخير والشر ما هما الا قيد لكبح رغباته الحيوانية ليكون قادراً على التفكير بشكل روحاني بعيداً ان الجسد ورغباته الا متناهية من نكاحٍ واكلٍ وشربٍ ومالٍ وبنين. وليكون ناجحاً في لعبة الحياة الدنيا عليه اذاً التخلص من شهواته او التحكم بها لأقصى حد ممكن، وهنا يرتفع الموج بهذا الكائن البشري لصعوبة الطلب بل لاستحالته في معظم الاحيان.
يؤمن اليابانيون بان الظلام مهم اكثر من الضوء نفسه، فما قيمة الضوء اذا لم يكن هناك ظلام قاتم؟ فيجلسون لساعات طويلة في غرفٍ مظلمة امام ابواب واسعةٍ تسمح بمرور ضوء الشمس الى ظلامهم تدريجياً، ليشاهدوا صراع الظلام مع الضوء، فينتصر الضوء لساعات ثم يعود الظلام ليكن سيد الموقف لساعات اخرى، بعد ان يتبختر النهار على الليل في ساعة الغروب ثم يستسلم للظلام، ولا شيء اجمل في عين الياباني الفيلسوف اكثر من اختراق القمر لظلام الليل الدامس، فينظر اليه ويكتب الشعر فيه واصفاً نفسه كانه ذاك الضوء الذي يعلن حرباً خاسرة على ظلام لا ينتهي. هذا المثال هو اقرب ما يمكن وصفه لفهم صراع الانسان مع نفسه، حيث يتعاقب عليه الخير والشر ولا يستقر على حالٍ الا لبعض الوقت، ولهذا يحتاج الانسان ان يجد طريقةً للتأقلم مع هاتين الحالتين،
فلا نصر على الشر بدون فهمٍ جيدٍ له، ولا دوام للخير بدون ادراكه حق الادراك. ولهذا ارسل الله الى الانسان الحائر الرسل والكتب السماوية ليعطيه مواصفات الانتصار في هذا الصراع. فحدد الله لنا الخير واحله، وحرم علينا الشر ونهى عنه، فاصبح الطريق لفهم الذات منسجماً مع الطريق الى الله، اذ انك لن تفهم نفسك الا اذا احببت ربك وفهمت ما يريد منك انت شخصياً.
إذا اصبحت علاقة العبد مع ربه علاقة تواصل ومحبة يصبح الانسان في حالة استقرار دائم مع نفسه، لأنه ادرك تماماً بعد طول عناء انه لم يشد رحاله ولم يركب البحر الا بحثاً عن مولاه عز وجل، فيطيعه حق الاطاعة ويقف عند اوامره ونواهيه، لان المحب لمن احب مطيع ومستسلم وراضخ له، ثم مع هذه الطاعة يرتفع الانسان بنفسه من عالم الجسد المسحور بالشهوات الى عالمٍ من السكينة الروحية.
دكتور القانون العام
محكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان