يشهد عالمنا المعاصر زخما كبيرا في وسائل الاتصال وأدوات نقل المعلومات والأخبار . فخلال دقائق قليلة تقذف الآف القنوات الفضائية والمواقع الإخبارية ومواقع التواصل الإجتماعي بحشود من الأخبار والمعلومات تتزاحم وتتداخل مع بعضها لدرجة تحير حتى المتخصصين وتتزايد صعوبة التفريق بين الغث والثمين ، وبين النافع والضار.
وفي ظل هذه الأوضاع المتشابكة والمتداخلة والمعقدة ، يظهر شياطين الإعلام بكافة أشكاله المسموع والمقروء والمرئي التقليدي منها والحديث. وهؤلاء الشياطين مكلفون بمهمة تزيين الباطل وتشويه الحق بأساليب وأشكال وصور متعددة، مع زيادة جرعات البث اليومي حتى يحظى هذا الباطل بالقبول ويؤثر في أفكار وسلوكيات الناس من كافة الأعمال وكافة الفئات الا القلة ممن رزقهم الله الفهم والوعي .
ولا يخفى على الجميع أن أسياد هؤلاء الشياطين ينفقون الآف المليارات من الدولارات سنويا لتطوير الآلة الإعلامية كي تحل محل الآلة الحربية التقليدية فيما يعرف بحروب الجيل الرابع والخامس . وابسط تعريف لتلك الحروب الحديثة وضعه د. شادي عبدالوهاب منصور في كتابه ( حروب الجيل الخامس ) الصادر بالقاهرة عام 2019 بقوله :” التفجير من الداخل باعتباره الوسيلة الأمثل لتفجير الخصم”. ويرى الدكتور شادي بأسلوبه السهل أن هذا المفهوم لحروب الجيل الخامس عبارة عن تطبيق عملي لفكرة أحد القادة العسكريين الصينيين القائلة :”إن أعظم درجات المهارة هي تحطيم العدو دون قتال “.
ومن هنا تبرز أهمية الوعي الإعلامي الذي يجب أن يتسلح به أولا العاملون في المؤسسات الإعلامية كي يستطيعون نقله الى الشعب، في ظل تعاون حقيقي وتنسيق جاد من كافة مؤسسات الدولة الحكومية والأهلية حتى يتم تحصين المجتمع ضد تلك الحروب الحديثة التي تكون نتائجها أكثر تدميرا وتأثيراتها بعيدة المدى .
وهنا يجب علينا أن نستعرض درس مكثف من إعلامي قدير وقديم يعود تاريخه إلى آلاف السنين وهو هدهد سيدنا سليمان. والذي خلده الله سبحانه وتعالى في 7 آيات من سورة النمل من الآية 20 حتى 26 :
( وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ *لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ *اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ *).
فقد بادر الهدهد للقيام بواجبه بالبحث عن نبأ خطير يهم الحكام والمحكومين في دولته دون أن ينتظر تكليف من مديره. فعلى كل إعلامي أن يبادر لأداء دوره ولا يكتفي بتنفيذ التكليفات . ويجب على المدير ان يسمح للاعلامي بالمبادرة الذاتية وبمساحة من الحرية تسمح له بالابتكار في أداء واجبه . وان لا نقيده باللوائح والتعليمات.
وعلى الإعلامي أن يأتي بنبأ يقين كما فعل الهدهد، ويبتعد عن إختلاق الاكاذيب والمعروفة صحفيا باسم الفبركة ، والتى أعلم انها وصلت في بعض الأحيان الى فبركة حوارات مع وزراء ورؤساء حكومات . ويقول الدكتورعلى الصلابي المفكر والمؤرخ الليبي في دراسة بعنوان ( الإعجاز الإعلامي في قصة هدهد سيدنا سليمان ) أن الهدهد لم يكتف بسماع أو برؤية الخبر كي ينقله ، ولكنه أحاط به والإحاطة تعني أنه ” رأى وشاهد وسمع وفهم وحلل” . ويجب على الاعلامي أن يصحب الخبر بمعلومات دقيقة ليؤكد مصداقيتة واضاف الصلابي: “الهدهد قد تحرى ودقق وبحث وجاء بمعلومات موثقة وهي أن القرية اسمها سبأ ، وتملكها امرأة وأن لها عرش عظيم ، وأنها وقومها يسجدون لغير الله “.
وأمام هذا النبأ اليقين تراجع نبي الله سليمان عن تهديده بمعاقبة الهدهد ولكنه علق العقاب حتى يتحقق ، وعفا عنه بعد التأكد من صدقه. وهنا درس مفيد وهو أن يتحقق المسئول من صدق الخبر المنقول اليه من اي اعلامي قبل السماح بنشره أو بثه . وأيضا أنه ليس عيبا أن يتراجع المسئول عن عقاب الإعلامي اذا قام بعمل جيد.
والدرس الأهم أن الأمه بأسرها جنت ثمار مصداقية الإعلام وجهود الهدهد، حكمة سيدنا سليمان، وتمثل في دخول الملكة بلقيس وقومها في دين الله .