العلاقة بين الأدب والمجتمع قائمة بالفعل وبالقوة، فالأدب لا يكون أدبا إلا في ظل شروط اجتماعية محدَدة. فالأديب المُنتج للعمل الأدبي، هو في البدء والختام فاعل اجتماعي قادم من مجتمع معين. والمتلقي المُفترَض لهذا المنتوج الأدبي / الاجتماعي هو فاعل اجتماعي آخر، والنسق العام الذى يحتضن هذه العملية يظل هو المجتمع بفعالياته وأنساقه الفرعية الأخرى. فعلى مستوى حقل الاشتغال، يتأكد واقعيا أن هذا الحقل يتم بالنسبة إلى الأديب والأدب والمتلقي على صعيد المجتمع، فالأدب مشروط من حيث إنتاجيته وتداوليته بوجود المجتمع، وإلا ما أمكن «تقديره» واعتباره أدبا.
أما على مستوى آليات الاشتغال ومولداته، فإن الاجتماعي يلعب دَورا بالغا فى إنتاج الأدب وبلورة الرؤى والمسارات المؤطِرة له. ولئن كان أنصار التحليل النفسى يذهبون إلى الربط الصارم بين العملية الإبداعية الأدبية والعناصر السيكولوجية، فإن الدرس السوسيولوجى يلح على التداخل والتشابك بين عدد من العناصر النفسية والاجتماعية والسياسية والثقافية فى صناعة الأدب. إذ إن عملية الإنتاج الأدبي والإيديولوجي لا تنفصل بالمرة عن العملية الاجتماعية العامة. فالأدب هو محصلة نهائية لتداخل عوامل مجتمعية يحضر فيها النفسي والجمعي والتاريخي، ولا يمكن بالتالي أن ينفصل عن سياقه المجتمعي. فكل نص هو تجربة اجتماعية، عبر واقع ومتخيَل. وعلى الرغم من كل المسافات الموضوعية التي يشترطها بعض الأدباء لممارسة الأدب، فإن المجتمع يلقى بظلاله على سيرورة العملية الإبداعية، بل ويوجِه مساراتها المُمكنة في كثير من الأحيان.
والأدب انعكاس اجتماعي بطبيعة الحال، وذلك «أنه نشاط اجتماعي قبل أن يكون نشاطا لغويا. حتى اللغة تُفسَر من منظور اجتماعي قبل أن تُفسَر من منظور آخر» (أحمد فراج، الثقافة والعَولمة.. صراع الهويات والتحديات،2003). ومن ثم فإن الأدب قابل للتعريف من منظور اجتماعي على أنه مجموعة من القيَم، أو التعبير عنها. نهض الأدب العربيّ بعد انحطاط، وتجدّدت اللغة العربيّة على أيدي اللبنانيّين والمصريّين؛ امتدّت النهضة من أواسط القرن التاسع عشر حتّى أواخر الثلث الأوّل من القرن العشرين، ثمّ تلتها نهضة ثانية ما زالت مستمرّة حتّى يومنا هذا. وقد رافق النهوض الأدبيّ التطوّر الاجتماعي والعلميّ والفكريّ بشكل عامّ. وهذا الأمر كان نتيجة الاحتكاك بين الشرق والغرب، ما ولّد ثقافة جديدة، ومفهومًا جديدًا للأدب، فنشأ فيه مذهبان:
- مذهب الفنّ للفنّ، هدفه الزخرفة الفنّيّة بغضّ النظر عن المضمون.
- مذهب الفنّ للحياة، هدفه معالجة القضايا الحياتيّة والاجتماعيّة.
ساهمت الثورة الفرنسيّة، وبعدها شرعة حقوق الإنسان، إضافة إلى العديد من الحركات الثقافيّة التربويّة والسياسيّة، كلّها ساهمت في جعل الأدب يتطلّع إلى المجتمع وقضاياه، فعكس ثورة على الظلم ومطالبة بالحرّيّة، ورفضًا للطائفيّة، ودعوة إلى بناء الأوطان على أسس المساواة والعدالة والإيحاء والحرّيّة التي لا يقيّده سوى مبدأ احترام حرّيّة الآخر. من أهمّ القضايا الاجتماعية التي شغلت الأدب: التفاوت الاجتماعي والطبقيّ، البطالة، التشرّد، تحرير المرأة، محو الأمّيّة، الاهتمام بشؤون الشباب ومعالجة مشاكلهم المختلفة.
ن هذا الإدلاء الصريح يُبيّن وظيفة الأديب ودورَه، وهذا لا يأتي إلا بتحرّر الأديب. فالحقيقة وكشفُها وتعريتها تحتاج لتحرّر الأديب سوى من فكرِه وقناعاتِه ولا نفهم حياديَّة الأديب إنّها تخلٍّ عن رسالته ومجتمعه. فالأدب ألصق الفنون بالحياة الإنسانية وأقدرُها على الإبداع والإمتاع، وأحبّها إلى الأذواق وأشهرُها شيوعا بين الناس، وهذا ما يحدّد مسؤولية الأديب أمام هذه الثقة الممنوحة له من فئات المجتمع المختلفة. فلا أدب من دون هدف ورسالة، يصبو إليها الأديب فالأديب الحرُّ مسؤول أمام ضميره عمّا يكتب ويقدِّم من إبداع.
ومن الأسئلة التي تتردّد في المجالس الأدبية: ما دور الأدباء أمام الأدباء الشباب الذين ينطلقون بعفويّة وحرارة، ويبحثون عن مكان لهم؟ فالأدباء الشباب لا تختلفُ الآراء حول أهميتهم ودورهم الأساسي لحمل عبء من سبقهم ومتابعة الدرب برؤية واقعية تفاؤلية متسلّحة بالحفاظ على القيم والمثل، متمسكين بتراثهم دون تناسي معاصرتِهم ومتطلباتهم. فعليهم أن يجدّدوا ما شاء لهم التجديد،
ولكن داخل إطار الإتقان والقواعد والتجويد والمعقولية وحسن النية بالدرجة الأولى. بعيدين عن الاستخفاف والابتذال والاستهتار، وهذه الأمور لا تتحقق إلا بتعميق الصلة والعلاقة بين الأجيال وزرع الاحترام المتبادل، فعلى الأدباء أن يفتحوا صدرَهم لتجارب الشباب، ويناقشوها،
وعلى دور النشر أن تأخذ بأيديه، تساعدهم على النشر، وتوجِّهُهم وتبحث عن وجودهم. وهذه مسؤولية ضرورية لئلا تكون هناك قطيعة ٌ، وعندها الطامة الكبرى. فالأدباء الشباب لهم حقوق وعليهم واجبات، ويجب أن نتوجه إليهم لنحافظ عليهم، فالمحافظة عليهم تمسّك بوحدتنا وأصالتنا. إن نظرية الأدب تتغير بناء على تغير القيم الاجتماعية.
والمجتمع العربي منذ الستينيات من القرن الماضي شهد تغيرات بعيدة المدى، ونتيجة لذلك طرح النقد عدة أسئلة حول الأدب واللغة وعلاقتهما بعضهما ببعض وعلاقتهما بالحياة والمجتمع. ومن ضمن هذه الأسئلة تحوّل النص/العمل الأدبي إلى أفق مفتوح يعمل كمِرجل تغلي في داخله عدة نصوص تنتمي لأنواع أدبية مختلفة كتبها عدة مؤلفين ينتمون إلى فترات تاريخية مختلفة. وهذا ما دعاه النقد الأدبي بالتناصّ
مستقبل الكتابة أصبح مرتبطًا بنوع الحياة التي يحياها الإنسان في مرحلته الحالية، ولعل تأمل أشكال الكتابة يبين لنا كيف أن هناك علاقة متبادلة بين أشكال الأدب والسمات الثقافية والروحية السائدة، ولذلك تعرض فن القص في العقود الأخيرة إلى عملية تغيير، حولته من فن بسيط إلى فن يستوعب أدق الخبرات الإنسانية في صورة تقترب من الفنون الأخرى كالموسيقى التي لا ترتكز إلى معان جاهزة بقدر ما تثير في المتلقي خبرة خاصة، وأصبح الكاتب يلجأ إلى تقنيات عديدة في نصه، بحيث يجعل القارئ يكمل المشهد بخياله الذي يتيحه النص الأدبي. وهذا التغيير في فن القص يشبه التغيير الذي حدث في تقنيات السينما المعاصرة، فلم يعد يمكننا تصوير الحركة المعروفة سلفًا، ويكفي بدايتها للانتقال لما يليها، ولم يعد التتابع المنطقي مألوفًا في السينما المعاصرة، وإنما لا بد أن يكون هناك منطق داخلي للعمل الفني كذلك الأمر بالنسبة لفن القص، الذي ظهرت فيه اتجاهات عديدة تحاول تقديم تقنيات حديثة للتعبير عن جوانب خفية من الواقع الإنساني الذي لا يخلو من السحر.
تشكل قضايا الشباب الجزء الأكبر من قضايا المجتمعات المعاصرة على اختلاف أنظمتها واتجاهاتها ومستوياتها ومشكلات الشباب تستأثر باهتمام المربين وعلماء النفس والاجتماع والمفكرين على تنوع انتماءاتهم، وهذا بسبب ما يعاني منه الشباب من متاعب وهموم ومشكلات نفسية واجتماعية خطيرة.
فالشباب من الفئات الاجتماعية الأكثر قدرة على العطاء والإبداع والمساهمة في جهود التنمية بمختلف أنواعها، فهم عماد الأمة ورجال مستقبلها يمثلون ثروة هائلة يمكن استخدامها في تجسيد مختلف المشاريع التي تطمح إليها البلاد. والحقيقة أن الشباب أكثر انفعالاً وتفاعلاً في المجتمع، وأكثر استعداداً للانجرار وراء مغريات الحياة والانحراف والشذوذ والإصابة بالاضطرابات النفسية والتأثر بالاتجاهات الجديدة والتقليد الأعمى.
وإذا كانت سمات العصر الذي نعيشه تكشف عن العديد من الصراعات والتوترات والتناقضات كما يشهد العالم اليوم تحولات ضخمة ساعدت في تكوين عالم جديد تتعدد خصائصه وتتباين توجهاته، غير أن هذا التحول قد نتج عنه مشكلات عدة أكثر صعوبة يغلب عليها العنف والاضطراب وقد ترتب على ذلك عدة مظاهر منها: الإحساس بالاغتراب و القلق و زيادة الحساسية للمثيرات الخارجية سواء أكانت مسموعة أم مرئية أو كلاهما معاً، هذا إلى جانب الابتعاد عن المعايير الأخلاقية والاجتماعية وضعف تقبل الشباب للأدوار التي يفرضها عليهم المجتمع، وهذا يوضح قلة الاهتمام وغياب الوعي ونقص المواطنة .
دكتور القانون العام
محكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان