الأخوة الإنسانية أصبحت مسؤولية العالم، ولمن لا يعلم فإن وثيقة «الأخوة الإنسانية» هي الأولى من نوعها في تاريخنا الحديث، تم توقيعها في فبراير 2019 في الإمارات من قبل فضيلة شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان، لنشر ثقافة المواطنة والتعايش والإخاء بين الناس. إن تنفيذ «الوثيقة»
يمكن أن يشكل خطوة رائدة تساهم في تخفيف الاحتقان الموجود في العالم، وتحفز المبادرات والجهود المماثلة على العمل، وهو ما قد ينقذ الإنسانية من مآسٍ يتحمل تبعاتها الأبرياء.
أن الأخلاق الحميدة كانت نبراساً يتقيد به الخلفاء والقادة العرب المسلمون في حروبهم ضد الآخرين, حيث شكلت مبادئ (الفضيلة) و(العدالة) و(الوفاء بالعهد) الثالوث المقدس في تصرفات العرب المسلمين بين بعضهم البعض أو في علاقاتهم مع الشعوب الأخرى, سواء كان ذلك في زمن السلم, أو في زمن الحرب. ويظهر ذلك بشكل خاص في إفشاء السلام بتحية (السلام عليكم) بين المسلمين بعضهم بعضاً ,
وفي أسلوب (الأمان) الذي يمنحه المسلمون لأبناء بقية الشعوب إذا جاؤوهم في تجارة أو زيارة أو سفارة. وليس من قبيل التعصب القومي أو الديني أن نؤكد أن العرب المسلمين هم الأمة الأولى التي رفعت المبادئ الأخلاقية إلى مستوى القواعد الشرعية الإلزامية في مجال معاملة الشعوب الأخرى, سواء كان ذلك في حالة السلم أو الحرب.
وهذه القواعد الأخلاقية ظلت نبراساً يهدي المسلمين في سلوكهم تجاه العدو وعلى مر العصور, وخاصة في معاركهم مع الروم والأوروبيين خلال أحداث فتح الأندلس والحروب الصليبية. ويتعرف بهذا الفضل صراحة كثير من الكتاب والمفكرين والفقهاء الأوروبيين المعاصرين , مثل البارون دوتوب (de taube) الذي يقول في محاضرة له ألقاها في أكاديمية القانون الدولي بلاهاي عام 1926 وبالحرف الواحد: ” إن أهمية الإسلام عموماً في تطوير الحضارة ضمن حوض البحر الأبيض المتوسط تجعلنا نقبل الاعتراف بأن العالم الإسلامي قد ساهم بتشكيل بعض نظم قانون الحرب وعاداته بين شعوب أوروبا,
حيث أن هذه الشعوب وجدت لدى أعدائها الذين ناصبتهم العداء أثناء الحروب الصليبية قواعد جاهزة تتعلق بإعلان الحرب والتمييز بين المقاتلين وغير المقاتلين , ومعاملة المرضى والجرحى وأسرى الحرب وتقسيم الغنائم الحربية, ومنع بعض وسائل الإضرار بالعدو …
إن الحرب في نظر الإسلام ليست غاية في حد ذاتها, وإنما هي سبيل لإحقاق الحق وإزهاق الباطل, ولذا يجب عدم الإصرار على مواصلة القتال إذا انقطع العدو عنه, وهذا نزولا عند حكم الآية الكريمة: ” وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم “
ولكن فقهاء المسلمين أجازوا للأمير قتال جند العدو سواء كانوا مقبلين أم مدبرين حيث من الجائز أن يتظاهر العدو بالانسحاب كجزء من خطة عسكرية, وليس تسليماً منه وطلباً للصلح. كما أن الاستجابة للصلح مشروطة بإزالة العدو للأسباب التي دعت للحرب أصلاً, أو باستعداد لإزالتها على الأقل, وإلا أصبحت الاستجابة لطلب الصلح خضوعاً لإرادة العدو واعترافاً بالأمر الواقع.
وبعد, فهذه هي أهم القواعد التي تحكم سلوك المجاهدين المسلمين في الحرب التي يمكن أن يشنوها ضد العدو . وهذا يبين بشكل ليس فيه مساهمة الإسلام في نشوء القانون الدولي الإنساني. ويعترف بذلك صراحة كثير من الكتاب والمفكرين والفقهاء المعاصرين من الأوروبيين وغيرهم.
إن الإنسان ليغبط أشد الغبطة عندما يراه الآخرون وقد أصبح لديه عدد من الإخوة يؤازرونه ويقفون بجانبه عند الشدائد، وينصرونه إذا ظلم، وخاصة من حرموا الإخوة، أو لديهم إخوة لا خير فيهم، مفككين فيما بينهم ومشتتين كل في جهة، لا يهتم الواحد منهم إلا بنفسه، فهل هذه الأخوَّة التي يتمناها كل إنسان، أم أن هناك أخوَّة غيرها هي التي يبحث عنها ويشعر بالأمن والسعادة معها؟ وهنا يجيب الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا السؤال مبينًا لنا أن الأخوّة الحقيقية ليست أخوة النسب، وإنما هي أخوة الدين، فكم من أخ من النسب لا قيمة له، يتخلى عن أخيه وقت الشدائد، ويخذله عند المهمات، ويفقده عند الحاجة، بل ربما يكون مع عدو أخيه على أخيه، ويبيع أخيه بعرض من الدنيا، كل ذلك من أجل إكرام لعين حبيب، أو خوف من بعيد أو قريب، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وهنا نستمع لحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يبين لنا نوع هذه الأخوّة.
أن التعاليم الصحيحة للأديان تدعو إلى التمسك بقيم السلام وإعلاء قيم التعارف المتبادل والأخوة الإنسانية والعيش المشترك؛
أن الحرية حق لكل إنسان: اعتقادا وفكرا وتعبيرا وممارسة، وأن التعددية والاختلاف في الدين واللون والجنس والعرق واللغة حكمة لمشيئة إلهية، قد خلق الله البشر عليها، وجعلها أصلا ثابتا تتفرع عنه حقوق حرية الاعتقاد، وحرية الاختلاف، وتجريم إكراه الناس على دين بعينه أو ثقافة محددة، أو فرض أسلوب حضاري لا يقبله الآخر.
أن العدل القائم على الرحمة هو السبيل الواجب اتباعه للوصول إلى حياة كريمة، يحق لكل إنسان أن يحيا في كنفها.
أن الحوار والتفاهم ونشر ثقافة التسامح وقبول الآخر والتعايش بين الناس، من شأنه أن يسهم في احتواء كثير من المشكلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والبيئية التي تحاصر جزءا كبيرا من البشر.
أن الحوار بين المؤمنين يعني التلاقي في المساحة الهائلة للقيم الروحية والإنسانية والاجتماعية المشتركة، واستثمار ذلك في نشر الأخلاق والفضائل العليا التي تدعو إليها الأديان، وتجنب الجدل العقيم.
أن حماية دور العبادة، من معابد وكنائس ومساجد، واجب تكفله كل الأديان والقيم الإنسانية والمواثيق والأعراف الدولية، وكل محاولة للتعرض لدور العبادة، واستهدافها بالاعتداء أو التفجير أو التهديم، هي خروج صريح عن تعاليم الأديان، وانتهاك واضح للقوانين الدولية.
أن الإرهاب البغيض الذي يهدد أمن الناس، سواء في الشرق أو الغرب، وفي الشمال والجنوب، ويلاحقهم بالفزع والرعب وترقب الأسوأ، ليس نتاجا للدين – حتى وإن رفع الإرهابيون لافتاته ولبسوا شاراته – بل هو نتيجة لتراكمات المفاهيم الخاطئة لنصوص الأديان وسياسات الجوع والفقر والظلم والبطش والتعالي؛
أن مفهوم المواطنة يقوم على المساواة في الواجبات والحقوق التي ينعم في ظلالها الجميع بالعدل لذا يجب العمل على ترسيخ مفهوم المواطنة الكاملة في مجتمعاتنا؛
أن العلاقة بين الشرق والغرب هي ضرورة قصوى لكليهما، لا يمكن الاستعاضة عنها أو تجاهلها، ليغتني كلاهما من الحضارة الأخرى عبر التبادل وحوار الثقافات؛
أن الاعتراف بحق المرأة في التعليم والعمل وممارسة حقوقها السياسية هو ضرورة ملحة، وكذلك وجوب العمل على تحريرها من الضغوط التاريخية والاجتماعية المنافية لثوابت عقيدتها وكرامتها؛
أن حقوق الأطفال الأساسية في التنشئة الأسرية، والتغذية والتعليم والرعاية، واجب على الأسرة والمجتمع، وينبغي أن توفر وأن يدافع عنها، وألا يحرم منها أي طفل في أي مكان؛
أن حماية حقوق المسنين والضعفاء وذوي الاحتياجات الخاصة والمستضعفين ضرورة دينية ومجتمعية يجب العمل على توفيرها وحمايتها بتشريعات حازمة وبتطبيق المواثيق الدولية الخاصة بهم. إن تحقيق مبدأ السياسة المشتركة المساهمة في صيانة السلام القائم على العدل والإنصاف، وهي مفرداتٌ غائبة في السلوك العدواني للكيان الصهيوني الذي يتنافى مع قيم السلام التي جاءت بها القوانين الإلهية والوضعية، فالتاريخ الدموي لهذا الكيان يشهد بأنه كيانٌ لا يقيم للسلام وزنا ولا يقبل بإقامته، حاله في ذلك كحال من يصد عن السبيل فيحارب دعوة الحق ويستميت في منع وصولها إلى غيره.
دكتور القانون العام
محكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان