تُعد الأموال شرياناً تاجياً لجسد أي اقتصادٍ وطني، وسلامتها مهمة وضرورية لاستقرار الدول اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وصحياً، وفي وقتٍ يموج بالأزمات الاقتصادية الجمة من شاكلة كورونا والنزاعات والحروب الدائرة على الموارد المائية والبترولية والحدودية الغنية بالثروات وغيرها، أصبح هاجس الربح سائداً لدى بعض الفئات في تلك المجتمعات، بغض النظر عن مصدره أو مشروعية أنشطته، مما أدى إلى وجود إجراءات تسعى إلى تغيير صفة هذه الأموال، لتظهر كما لو نشأت من مصدر مشروع، وهو ما يُعرف بـ«غسل الأموال أو تبييضها»، وتبرز هذه الظاهرة ومدى تأثيراتها على تمويل اقتصاديات الدول، خاصة النامية، ولخطورتها تم تداولها كثيراً في جميع المحافل الدولية المهتمة بالجرائم الاقتصادية والأمنين الاجتماعي والاقتصادي، باعتبار أن عملية غسل الأموال ترتبط إلى حد كبير بأنشطة غير مشروعة تكون في الغالب هاربة خارج حدود سريان القوانين المناهضة للفساد المالي، ثم تحاول العودة مرة أخرى بصفة شرعية معترف بها من قبل القوانين نفسها التي كانت تُجرّمها، وقد انتشرت بشكل كبير في الدول النامية والمتقدمة على حد سواء؛ نتيجة التحرُّر الاقتصادي والمالي، ويزداد الاتجاه نحو عمليات غسل الأموال دولياً مع ازدياد الاتجاه لتحرير التجارة العالمية، حيث تستغل عمليات فتح الحدود والتحرُّر من القيود في نقل الأموال القذرة، لتكون أكثر أماناً في دول أخرى غير التي مُورست على أرضها الأنشطة الخفية غير المشروعة.
وتتواكب عمليات غسل الأموال مع الثورة التكنولوجية والمعلوماتية، حيث تشهد تلك العمليات تطوراً كبيراً في تقنياتها، مدفوعة في ذلك بالتزايد الكبير في حجم تلك الأموال، والمتحصلات الناتجة عن الأنشطة الخفية وغير المشروعة، فبعد أن كانت تستخدم في الأعمال الخيرية، أخذت في ظل العولمة تستعمل في المضاربة على العمولات، وشراء العقارات والمعادن النفيسة، بل وصلت إلى البورصات لشراء الأسهم والسندات وإقامة المشروعات الاستثمارية، أي أنها دخلت عصب الاقتصاد الرسمي، وقد تتم من خلال خبراء مختصين على علم بقواعد الرقابة والإشراف في الدول، وما يوجد بها من ثغرات يمكن النفاذ منها، وعلى علم بفرص الاستثمار ومجالات التوظيف والأصول التي توفر الأمان لهذه الأموال.
هناك العديد من الدوافع وراء تزايد عمليات غسل الأموال؛ أهمها البحث عن الأمان واكتساب الشرعية، خشية المطاردة القانونية، فكلما ازدادت المتحصلات المتولدة عن الأنشطة غير المشروعة زاد الدافع لغسلها أو تبييضها بصفة عامة، وعبر الحدود بصفة خاصة، ودولياً في إطار الإصلاح الاقتصادي، وتحرير تجارة الخدمات المصرفية والمالية في إطار منظمة التجارة العالمية، حيث تسعى الدول إلى جذب الاستثمارات الأجنبية، وتحرير الأسواق المالية؛ لإحداث المزيد من الإنعاش والنمو الاقتصادي، بغض النظر عن مخاطر تزايد عمليات غسل الأموال، أيضاً تباين التشريعات وقواعد الإشراف والرقابة بين الدول المختلفة، مما يفتح المجال لوجود ثغرات تنفذ من خلالها الأموال القذرة، ومنها انتشار التهرّب الضريبي والقروض السيئة السمعة والتي وراءها الرشوة وسرقة أموال البنوك، وتردد بعض الدول في وضع تشريعات وضوابط لمواجهة غسل الأموال المتزايدة؛ خشية تعارضها مع العولمة المالية، وفي ظلها أصبح الأشخاص الطبيعيون والمعنويون أكثر قدرة على تحويل مبالغ ضخمة من الأموال من بلدٍ لآخر دون قيودٍ وعقبات تحول دون ذلك.
من تقنيات أساليب غسل الأموال تعدد الودائع الصغيرة؛ بحيث تقل كل وديعة منها عن الحد الأدنى الذي يشترط الإبلاغ عنه لزيادة التمويه، والتلاعب في فواتير التصدير والتزوير في خطابات اعتماد الواردات وتصريحات الجمارك، مما يمكن من إخفاء التحويلات عبر الحدود؛ أيضاً التحويلات البرقية بين البنوك، التي قد لا تكون خاضعة للإبلاغ عن غسل الأموال، والتحويلات من المغتربين، والتجارة البحرية، حيث تقوم السفن البحرية، التي ترفع علم دولتها أو علامات تسجيل خاصة، بإخفاء أموال قذرة تعمد إلى إدخالها إلى إحدى الدول، والاستثمار في القطاع السياحي، إذ يقوم المبيضون بإنشاء مطاعم ومنتجات سياحية ويعملون على إدارتها بطريقة تظهر أن الأموال المبيضة، بمنزلة أرباح محققة من تلك المؤسسات السياحية، وبورصات الأوراق المالية من خلال شراء الأوراق المالية وبيعها.