من أعظم المكاسب التي يحققها القرآن الكريم «ضبط الحالة النفسية للإنسان» وإضفاء حالة من الطمأنينة والسكينة عليها، ولذلك تجد آيات الله تتردد في كل مكان تذهب إليه من مستشفيات ومراكز صحية وتجارية وسيارات ومنازل وغير ذلك.. فالكل يستريح لسماع القرآن ويتبارك به.
إن القرآن يغرس في نفوس المستمعين إليه الصفاء الروحي والرضا بكل ما يقدره الخالق سبحانه وتعالى للإنسان في هذه الدنيا، حيث يؤكد الحق سبحانه في العديد من الآيات القرآنية ذلك، فكل شيء في هذه الحياة خاضع لقضاء الله تعالى وقدره وإرادته، وواجب المؤمن الصادق أن يكون شاكرا عند الرخاء، صابرا عند البلاء.
القرآن الكريم أفضل علاج نفسي، وكل من يقرأ القرآن أو يستمع إليه يشعر بهدوء وسكينة وتغمر نفسه طمأنينة نادرة، ومن هنا استخدم القرآن كعلاج نفسي فعال في حالات كثيرة، وهذا سر قول الحق سبحانه: «وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين»، وقد قال العديد من علماء المسلمين، إن المقصود هنا هو شفاء الأمراض النفسية وأنا أؤيد هذا الرأي، ودائما أنصح مرضاي المسلمين بقراءة القرآن والحرص على ذلك.
إن القرآن ينقل الإنسان إلى حالة من الصفاء النفسي الذي تذوب معه كل هموم الدنيا ومتاعب الحياة، فبتلاوة القرآن يسبح العبد في ملكوت السماء، وكأنه يحلق في عالم رباني بعيد كل البعد عن ماديات الحياة وزخرفها الزائل الزائف،
فمع تلاوة القرآن تتجلى الحقيقة أمام أعيننا «هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان» ومع القرآن تتلاشى شوائب الفكر وتختفي وساوس الشيطان، ويستقيم الوجدان، وتلاوته تسمو بالنفس إلى منزلة عالية وتطرد منها روح الشر وميول العدوان، وترقى بها إلى مستوى الرحمة والمودة، والحب الطاهر، وتقوى الله عز وجل تتجلى في تلاوة القرآن حيث ورد في كتاب الله قوله تعالى: «وتزودوا فإن خير الزاد التقوى» وقوله عز وجل «ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب».
لذلك ننصح كل مهموم بالحرص على الهرب من حالة الهم والكرب والقلق بقراءة القرآن، وأن يحرص على قراءة قصص الأنبياء التي وردت في القرآن الكريم، ففيها عبر وعظات وفوائد نفسية عديدة.. ويقول: نحن كأطباء هناك حالات نعجز عن فهمها حيث لا يجدي العلاج العضوي والدوائي، وقد استعنا بالقرآن فيها، وكان سبباً مباشراً أو غير مباشر في تخفيف حدة المشكلات النفسية لهذه الحالات، مما جعلنا نوقن بأن القرآن الكريم علاج سحري لبعض الحالات، وهناك قصص كثيرة لأطباء في مختلف دول العالم استعانوا بالقرآن كعلاج نفسي ولم يخذلهم كتاب الله الحكيم.
لكن ما هو الشفاء المنصوص عليه في قول الحق سبحانه: «وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا «مما لا شك فيه أن قراءة القرآن، والعمل بأحكامه وآدابه وتوجيهاته شفاء للنفوس من الوسوسة والقلق والحيرة والنفاق والرذائل المختلفة، ورحمة للمؤمنين من العذاب الذي يحزنهم ويشقيهم، إنه شفاء لمن خالطت قلوبهم بشاشة الإيمان، فأشرقت بنور ربها، وتفتحت لتلقي ما في القرآن من هدايات وإرشادات.. إنه شفاء للنفوس من الأمراض القلبية كالحسد والطمع والانحراف عن طريق الحق وشفاء لها من الأمراض الجسمانية».
وقال القرطبي في تفسيره لهذه الآية: «اختلف العلماء في كون القرآن شفاء على قولين:
أحدهما: أنه شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها وإزالة الريب، ولكشف غطاء القلب من مرض الجهل، الثاني: أنه شفاء من الأمراض الظاهرة بالرقى والتعوذ ونحوه».
وقال بعض العلماء: «وقوله تعالى في هذه الآية: «ما هو شفاء» يشمل كونه شفاء للقلب من أمراضه، كالشك والنفاق وغير ذلك، وكونه شفاء للأجسام إذا رقي عليه به، كما تدل له قصة الذي رقى الرجل اللديغ بالفاتحة، وهي صحيحة مشهورة».
لكن.. هل يعني الارتكان إلى أن القرآن الكريم علاج للأمراض ألا نداوي أمراضنا عند الأطباء؟ علينا أن نحتكم هنا لنصوص القرآن الكريم مع التفسير الصحيح لها، حيث يقول الله تبارك وتعالى: «وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا»، فينبغي لأبناء الإسلام أن يعلموا أن الله عز وجل قد أنزل القرآن ليكون نوراً وضياء للعالمين، وليهدي الناس إلى صراط الله المستقيم، وليكون دستوراً يجب عليهم العمل بأوامره واجتناب نواهيه،
لا أن يتخذوه وسيلة للعلاج وأحجبة وتمائم من دون العمل بما جاء فيه، والقرآن علاج لأمراض القلوب والعقول وقد يكون علاجاً ناجعا للأمراض النفسية، لكن الأمراض العضوية لابد أن تعالج عند الأطباء، وبالأدوية الفعالة التي قدرها الله على أيدي الأطباء المتخصصين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي وجهنا إلى ذلك وقال: «تداووا عباد الله فإن الله لم يخلق داء إلا وخلق له دواء».
أما بالنسبة للرقية الشرعية فلا ضرر منها، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا مرض قرأ المعوذتين ونفث في يده ومسح على جسده وهو يقول «اللهم رب الناس أذهب البأس، اللهم اشف فإنك أنت الشافي»، ويقول أيضا: «أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامّة ومن كل عين لامّة»، إلى غير ذلك مما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.. كما ثبتت أيضا الرقية بالقرآن الكريم وبأم الكتاب، وكذلك ورد التوجيه الإلهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكل المؤمنين بالاستعاذة به سبحانه وتعالى من همزات الشياطين وحضورهم في قوله تعالى: «وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين. وأعوذ بك رب أن يحضرون».
هنا أنه لا يجوز شرعا اتخاذ شيء من القرآن الكريم وجعله حرزا أو حجابا يعلق على الصدور أو الرؤوس، لأن ذلك يؤدي إلى امتهان القرآن الكريم وعدم صونه من العبث ومن الأماكن التي لا يجوز أن يكون القرآن فيها.. لذلك فإن معظم ما يمارس من الأدعياء تحت شعار العلاج بالقرآن يدخل في باب الدجل والشعوذة، وعلى المسلمين أن يتخلصوا من ذلك حرصا على صحتهم وعقيدتهم.
ومن مظاهر «ضبط» القرآن للحالة النفسية للمسلم
ترسيخ عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر في نفسه، والرضا بما قدره الله سبحانه، وعلينا أن نتأمل هنا قول الحق سبحانه: «ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير. لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور»، فالآية الأولى تؤكد أنه لا يحدث في ملكوت الله إلا ما قدره الله، والمصائب التي تحدث للإنسان مسجلة في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وهذا التسجيل كائن من قبل أن يخلقنا الله سبحانه.. فالآية الكريمة صريحة في بيان أن ما يقع في الأرض وفي الأنفس من مصائب ومن غيرها من مسرات مكتوب ومسجل عند الله تعالى قبل خلق الأرض والأنفس.. ولذلك يجب على المسلم دائما أن يردد قوله تعالى: «قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون».
وقوله سبحانه: «لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم» ضبط واضح للحالة الإيمانية والمزاجية للمسلم، فهو مطالب بأن يأخذ بالأسباب ويترك النتائج على الله وحده، حتى لا يحزن على ما أصابه من مصائب حزنا يؤدى به إلى الجزع، وإلى عدم الرضا بقضاء الله وقدره، ولكي لا يفرح بما أعطاه الله تعالى من نعم عظمى وكثيرة فرحا يؤدي به إلى الطغيان، وإلى عدم استعمال نعم الله فيما خلقت له، فإن من علم ذلك علما مصحوبا بالتدبر والاتعاظ، هانت عليه المصائب واطمأنت نفسه لما قضاه الله تعالى، وكان عند الشدائد صبورا، وعند المسرات شكورا.
والله سبحانه بقوله «إن الله لا يحب كل مختال فخور» يغرس في نفس المسلم قيمة التواضع حتى يعيش حياته مستقرا، ولا يتباهى على الناس بما عنده من أموال وأولاد.
وهكذا.. يغرس القرآن الكريم في قلب المؤمن كل معاني الثقة والرضا بقضاء الله في كل الأحوال، وليس معنى ذلك عدم مباشرة الأسباب التي شرعها الله تعالى لأن ما سجله الله في كتابه علينا قبل أن يخلقنا لا علم لنا به، وإنما علمه مرده إليه وحده، وهو سبحانه لا يحاسبنا على ما نجهله وإنما يحاسبنا على ما أمرنا به، أو نهانا عنه عن طريق رسوله صلى الله عليه وسلم.. وكما سجل سبحانه أحوالنا قبل أن يخلقنا، فقد شرع الأسباب وأمرنا بمباشرتها، وبين لنا في كثير من آيات القرآن، أن جزاءنا من خير أو شر على حسب أعمالنا.
وعندما قال بعض الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: «أفلا نتكل على ما قدره الله علينا؟» أجابهم قائلا: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له».
دكتور القانون العام والاقتصاد
وخبير امن المعلومات
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان