لقد حرصت التشريعات الجنائية على تقرير نظام عقابي خاص لمواجهة جرائم الفساد حيث يقتضي الاطار التشريعي لجرائم الفساد ومعاقبة مرتكبيه وجود نظام إجرائي فعال ومتكامل لملاحقة المتهمين ومحاكمتهم واسترداد عوائد نشاطهم الإجرامي مما اقتضى بعد أن بينا المظاهر القانونية لجرائم الفساد ضرورة الإشارة إلى الملاحقة الإجرائية لهذه الجرائم. إذ يعد الفساد محور بحثنا من المشكلات التي تعاني منها المجتمعات في الدول النامية والمتقدمة بدرجات متفاوتة فهو أوسع انتشارا في الدول النامية حيث أن وجوده يرتبط بالمستوى الاقتصادي والسياسي والثقافي والوعي العام لدى المواطنين في كل مجتمع ولكنه في كل الأحوال يبقى مشكلة تتسم بالخطورة والتعقيد في الدول النامية أو في الدول المتقدمة
وعليه فالفساد مشكلة معقدة بالنظر لتعدد صوره وأنماطه التي أخذت تتجاوز حدود الوطن الواحد لتصبح ظاهرة عبر وطنية خاصة في ظل التقدم العلمي والتكنلوجي الكبير الذي يشهده عالمنا اليوم إذ تفنن مرتكبو الفساد في كيفية زيادة ثرواتهم بصورة غير مشروعة ولم تعد الوظيفة العامة أو ما في حكمها لدى شاغليها أداة لخدمة المجتمع بل أداة لزيادة ثرواتهم ولذلك حظي هذا الموضوع باهتمام على جميع المستويات المحلية والإقليمية والدولية.
فنلاحظ أن قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل اكتفى بالنص على جريمة الرشوة العادية في المواد(307-314) منه في حين كان قانون انتخاب مجالس المحافظات والأقضية والنواحي رقم 36 لسنة 2008 أول تشريع نص على الموضوعات التي تعد من قبيل الرشوة الانتخابية والتي أوردها في الفصل السابع تحت عنوان الجرائم الانتخابية. إذ ذكر في مواده 38-45 تلك الجرائم على سبيل الحصر27، ثم تلاه بذكر هذه الجريمة النظام رقم 14 لسنة 2008 الصادر من المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، وقد أوكل أيضا قانون المفوضية العليا المستقلة للانتخابات رقم 11 لسنة 2007 مهمة الحفاظ على نزاهة العملية الانتخابية للمفوضية من خلال إصدار الأنظمة والتعليمات من قبل مجلس المفوضين بموجب المادة 4 /ثامنا ًمن القانون المذكور. واستناداً إلى هذا النص تحديداً فقد اصدر مجلس المفوضين في المفوضية نظام (الجرائم والعقوبات المتعلقة بالانتخابات والاستفتاءات) رقم 14 لسنة 2008 وقد نفذ من تاريخ المصادقة عليه من قبل المجلس في 1/12/ 2008، إذ نص هذا النظام في القسم الخامس منه على جريمة الرشوة.
ولهذا فأن المسئولية الجنائية عن الفساد في العملية الانتخابية تخضع إلى القانون الجنائي والقوانين الخاصة بالانتخابات فالجرائم الانتخابية ذكر بعضها في قانون العقوبات العراقي كالرشوة أو انتخال شخصية أو ذكر معلومات كاذبة حيث نصت على ذلك المادة (292)29 إذ نصت على (يعاقب بالحبس وبالغرامة التي لا تزيد عن ثلاثمائة دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين من توصل بانتحال اسم كاذب أو شخصية كاذبة إلى الحصول على أية رخصة رسمية أو تذكرة انتخاب عام أو تصريح نقل أو انتقال أو مرور داخل البلاد ويعاقب بالعقوبة ذاتها من زور أو اصطنع محررا من هذا القبيل).
وكذلك تم أدراج أعمال الفساد في العملية الانتخابية في القوانين الخاصة بالانتخابات ومنها قانون انتخاب مجلس النواب العراقي رقم 45 لسنة 2013 وقانون انتخاب مجالس المحافظات والأقضية والنواحي رقم 36 لسنة 2008 وكذلك نظام الجرائم والعقوبات المتعلقة بالانتخابات والاستفتاءات رقم 14 لسنة 2008، وبما ان هذه تعد من القوانين الخاصة. لذا ينبغي أعمال هذه النصوص على اعتبار أولويتها في التطبيق استنادا لقاعدة النص الخاص يقيد النص العام ولذلك جعل المشرع من المرشح او الحزب السياسي مسئولين مسؤولية جنائية عن انتهاك قوانين الانتخابات بما في ذلك ارتكاب أعمال الفساد في العملية الانتخابية.
ولكن لابد من القول إلى أن ارتكاب واحدة من الجرائم المذكورة في قوانين الانتخابات أو نظام الجرائم والعقوبات المتعلقة بالانتخابات أو الاستفتاءات يعد كافيا للملاحقة الجنائية ألا أن تطبيقها يكون محدود جدا نظرا لإخفاء اكثر تلك الجرائم وأنهاء الإجراءات في مرحلة التحقيق.
والملاحظ أن معظم التشريعات التي أصدرت قوانين لمكافحة الفساد اتجهت إلى تضمين هذه القوانين أنشاء هيئة لمكافحة الفساد تقوم مهمتها أعداد وتنفيذ السياسات العامة الهادفة إلى مكافحة الفساد بالإضافة إلى بعض الاختصاصات الأخرى. ففي العراق تم تشكيل مفوضية النزاهة العامة بموجب الأمر 55 لسنة 2004 الصادر عن سلطة الائتلاف المؤقتة المنحلة والذي تم إلغاءه بالقانون رقم 30 لسنة 2011 إذ أن لها صلاحية التحقيق في جرائم الأموال وكل ما يتعلق بالفساد الإداري والمالي وهذه الجرائم المرتكبة قد تكون أحيانا ذات طابع دولي ولها صلة بجرائم الجريمة المنظمة عبر الوطنية وفي مجال بحثنا تناولنا هذه الجريمة وهي الرشوة الدولية التي ترتكب من قبل بعض المسؤولين مما يستوجب أن تقوم هذه الهيئة وفق الصلاحيات الممنوحة لها مسؤولية التحقيق فقد جاء نص البند الأول من المادة (3) بالنص على مهمة التحقيق إذ جاء فيها (تعمل الهيئة على المساهمة في منع الفساد ومكافحته واعتماد الشفافية في إدارة شؤون الحكم على جميع المستويات عن طريق أولا: التحقيق في قضايا الفساد طبقا لأحكام هذا القانون….) وتتولى هذه المهمة دائرة التحقيقات،31 كما تنص المادة (11/ بند الأول) على أن للهيئة صلاحية التحقيق في أي قضايا فساد بواسطة احد محققيها……)
من خلال ما ذكر نلاحظ من دلالاتها بان وجوب التحقيق في قضايا الفساد ليست دلالة قاطعة فعبارة (تعمل الهيئة) وعبارة (للهيئة صلاحية التحقيق) لا تدل بوجوب التحقيق وإنما تدل على إمكانية القيام به من قبل الهيئة وبالرغم من أن نص البند الثاني من المادة (11) من هذا القانون يرجح اختصاص الهيئة التحقيقية على اختصاص الجهات التحقيقية الأخرى ألا أن تلك الجهات غير ملزمة بإيداع الأوراق والوثائق المتعلقة بالقضية ألا اذا اختارت الهيئة إكمال التحقيق في قضية فساد مما يدل على أن سلطة الهيئة تقديرية في أجراء التحقيق من عدمه من قبلها.
كما أن هذا القانون لم يوجب استخدام الهيئة وسائل التقدم العلمي والتكنلوجي وآلات التحري والتحقيق وجمع الأدلة في ميدان الكشف عن جرائم الفساد إذ أن سلطة الهيئة أيضا تقديرية في استخدام تلك الوسائل من عدمها، ومما يؤخذ على قانون الهيئة أيضا هي إعطاء رئيس الهيئة صلاحيات حفظ الاختبارات دون عرضها على قاضي التحقيق المختص وهذا قد يساعد على استغلال الرئيس لمنصبه أو استغلاله من قبل الجهات المتورطة بقضايا الفساد لغرض حفظ الاختبارات المعروضة عليها باعتبارها جهة تحقيق بالإضافة إلى انه يعتبر تدخلا في عمل القضاء (مادة 13 / البند الأول من القانون).
أما فيما يتعلق بواجب الهيئة بمتابعة قضايا الفساد التي لا يقوم محققو الهيئة بالتحقيق فيها32فان قانون الهيئة وان نص المادة 14/ بند الأول على إن يقوم قاضي التحقيق بأشعار الدائرة القانونية إلا اذا طلبت هذه الدائرة اطلاعها على سير التحقيق أي أن للهيئة سلطة تقديرية في اطلاعها على سير التحقيق من عدمه، فلا يوجد واجب قانوني يلزم الهيئة بطلب اطلاعها على سير التحقيقات فبالرغم من إن قانون الهيئة قد جعل الهيئة طرفا في كل قضية فساد لا يجري فيها التحقيق بواسطة احد محققي دائرة التحقيقات إلا أن القانون لم يجعل متابعة قضايا الفساد واجب على الهيئة وإنما جعله من سلطتها التقديرية إذ جاء النص على (… ولها متابعتها بواسطة ممثل قانوني بوكالة رسمية) أي إن للهيئة هذه المتابعة أن أرادت ذلك ولا يعد هذا الأمر ملزم لها.33
مما تقدم أتضح لنا بان القانون النافذ لا یختلف عن القانون الملغي إلا من حیث أن الهيئة في القانون السابق تخضع لرقابة مجلس الحكم أما في القانون الحالي فهي تخضع لرقابة مجلس النواب. أما من حیث اختصاصات الهيئة في القانونین فهي لا تختلف لان الغرض من كلاهما محاولة القضاء على الفساد ومنع انتشاره في مفاصل الدولة المختلفة. ومن كل ما تقدم أرى إن عمل المحقق القضائي يبقى خاضع لإشراف قاضي التحقيق ولا يمكن إجراء أي عمل تحقيقي يدخل ضمن إطار التحقيق الجنائي إلا بإشراف قاضي التحقيق وعلى وفق الأحكام القانونية، التي تنظم عمل المحقق، المشار إليها في قانون أصول المحاكمات الجزائية.
وتعمل الهيئة على المساهمة في منع الفساد واعتماد الشفافية في إدارة شؤون الحكم على جميع المستويات وعن طريق التحقيق في قضايا الفساد طبقا للقانون، فإن هيئة النزاهة لها إن تحقق في قضايا الفساد حيث تكون الهيئة طرفا في هذه القضية أو الدعوى ولها الحق في الاستعانة بالإجراءات الجنائية من اجل البت والفصل في القضايا المتعلقة بإساءة التصرف.34
ويمكن القول بان دور مفوضية النزاهة عند سحبها للقضية لا يعني أنها ستكون البديل عن القضاء وإنما دورها ينحصر في جمع الأدلة من خلال الاتصال بالدوائر ذات العلاقة وتعقب مصادر المعلومات وتدقيق السجلات وما شابه ذلك من الأمور الإدارية، أما اذا كان المفوضية هي التي طلبت تحريك الشكوى بعد جمعها للأدلة وتوفر لديها سبب ارتكاب احدى جرائم الفساد لذا فان دورها سيكون دور المخبر وعند ذاك ستصبح احد اطراف القضية.
دكتور القانون العام والاقتصاد
وخبير امن المعلومات
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان