يعد الفساد آفة العصر الحديث، لا دين له ولا وطن، ولا يخفى على أحد ما نمرُّ به هذه الأيام من ظواهر، وحوادث كبيرة في شيوع ظاهرة الفساد، والعالم أجمع، فليس هناك دولة – في الوقت الراهن – تسلم من الفساد، وكوارثه.
ولا شك أن الفساد يشكِّل تهديدًا مستمرًا للسلام، والأمن، والاستقرار ولا يوجد مبررٌ أو مسوغٌ لارتكاب الفساد، فهو مدان دائمًا مهما كانت الظروف أو الدوافع المزعومة.
فقد كان هناك إجماع دولي على استخدام أدوات النظام المالي لمكافحة الفساد، وذلك باعتبارها من أفضل الوسائل للقضاء على الفساد من خلال مكافحة الفساد بجميع الطرق المتاحة التي تأتي من خلال المواجهة المالية للجريمة المرتكبة
والتي يكون الفساد أساسها، لذلك تعتبر عملية مكافحة الفساد إحدى أولويات المجتمع الدولي وتعني الحد من توسع الفساد التي تحقق مارب المجرمين.
ولهذا أصبح الفساد من أكثر الجرائم انتشارا على مستوى العالم. إن الجمعية العامة، إذ يقلقها رشو الموظفين العامّين من قبل أفراد ومؤسسات في دول أخرى فيما يتعلق بالمعاملات التجارية الدولية،
واقتناعا منها أيضا بأن مكافحة الفساد يجب دعمها بجهود صادقة من خلال التعاون الدولي،، وتشكل خطرا على الاقتصاد بشكل عام، وتعد مصدرا لتمويل الجريمة المنظمة والجرائم الإرهابية،
ولهذا نصت الاتفاقيات الدولية في الآونة الأخيرة على أدراج جرائم الفساد والإرهاب ضمن جرائم غسيل الأموال بهدف تجفيف منابع الفساد والإرهاب.
لا شك أن الأموال العامة تحتل مكانة هامة في اقتصاد أي دولة، لا سيما وأنها أساس المعاملات الاقتصادية، وبما أن هذه الأموال كانت عبر مختلف الأزمنة و العصور عرضة للاعتداء من طرف الأفراد قامت الدول بحمايتها بعدة وسائل
منها أنها كرست لها حماية مدنية بموجب قواعد قانونية تقضي بعدم قابليتها للتصرف والتقادم والحجز، إضافة إلى أنها وضعت تسييرها وإدارتها تحت تصرف أشخاص مؤتمنين على هذه الأموال يسمون بالموظفين العموميين تستخدمهم الدولة أو الهيئات العامة بصفة دائمة أو مؤقتة للقيام بعمل تشريعي أو إداري أو قضائي بمقابل أو بدون مقابل.
وبمرور الوقت امتد تفكير القائم بتسيير وإدارة المال العام إلى خيانة هذه الأمانة، فأصبح بذلك المال العام يتعرض على يد الموظف العمومي إلى عدة أفعال مضرة به، دفعت بالمشرع في مختلف الدول إلى تجريمها و المعاقبة عليها بصرامة، في إطار حماية جزائية لهذا المال، وذلك لأن دور الدولة في حماية الأموال والمصالح العامة المعهودة لأشخاص يعملون في الهيئات ذات النفع العام وتوظيف هذه الأموال والمصالح بما يخدم المجتمع هو السمة المميزة لها أيا كان اتجاهها السياسي والاقتصادي، على أساس أن سلوك الجاني هنا وهو من الموظفين ومن في حكمهم الذين يستلمون بحكم وظائفهم المال العام، يعبر عن خطورة إجرامية في استغلال مركزه لارتكاب الجريمة، إضافة إلى أن يده على المال هي بمثابة يد أمانة يسهل معها الاستحواذ على المال لنفسه.
ومن هنا كان موقف التشريع في أغلب الدول متشددا كي يمنع ما وسعه فكرة الاعتداء على المال العام من أن تراود أذهان هذه الطائفة من الأفراد الذين يعملون باسم المجتمع ولمصلحته، لذلك كان من الطبيعي أن تنمو نظرية متكاملة لردع الاعتداء على المال العام في ظل تنامي دور الدولة ومؤسساتها العامة في المجتمعات المعاصرة وضرورة تأمين الحماية اللازمة للأموال التي تسلم أو يتم إدارتها من طرف هؤلاء الموظفين.
اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي تم التوقيع عليها من قبل العراق في 30/8/ 2007(14)، وتمثل اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد ميثاقاً دولياً بالغ الأهمية لسببين أولهما: أنها اتفاقية عالمية النطاق اشترك في أعمالها التمهيدية وفي المفاوضات التي سبقت إقرارها أكثر من مائة وعشرين دولة بالإضافة إلى العديد من المنظمات الدولية.
وثانيهما إن هذه الاتفاقية تمثل استراتيجية شاملة لمكافحة الفساد تعتمد على اتخاذ مجموعة من التدابير التشريعية وغير التشريعية. وتنشئ لنفسها آلية لمراقبة التنفيذ من خلال مؤتمر الدول الأطراف. وتستهدف التعاون القضائي بين الدول الأطراف على كافة أصعدة مكافحة ظاهرة الفساد. ولاشك إن التشريع العربي مدعو إلى الاستجابة التشريعية لهذه الاتفاقية لكي يبدو أكثر توافقاً أو أتساقاً مع أحكامها. ولعل هذه الاستجابة التشريعية المرجوة يفرضها عامل قانوني مهم، وهو أن انضمام العراق إلى اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد والتصديق عليها يعني أن المشرع العربي سوف يصبح من الناحية القانونية ملزم بأحكامها. لأن التصديق على معاهدة دولية بحكم ما تنص عليه الدساتير والقوانين يجعل من هذه المعاهدة جزء لا يتجزأ من النظام القانوني الوطني. ويترتب على ذلك ضرورة تحقيق الاستجابة والمواءمة التشريعية بين ما تضمنته أحكام المعاهدة وبين الأحكام الواردة في التشريع العربي.
ومن السبل العلاجية معالجة الأضرار التي تلحق بالمجتمع المحلي والدولي ويتمثل ذلك الضر الذي يلحق بالمجتمع في المبالغ التي يتحصل عليها المجرم نتيجة لفعله الإجرامي والتي تتمثل في النهاية استقطاع من دخل المجتمع، ولجبر ذلك الضرر لابد من إعادة تلك الأموال وقد فطنت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد للأهمية ذلك فنصت في المادة رقم 3 منها على إرجاع العائدات المتأتية من الأفعال المجرمة وفقا لها،
كما نصت في المادة رقم 31 منها على” ضرورة مصادره العائدات الإجرامية المتأتية من أفعال مجرمة أو الممتلكات التي تعادل قيمتها قيمة تلك العائدات” ويقصد بذلك نزع ملكية الأموال التي تحصل عليها المجرم من إحدى جرائم الفساد ونقل ملكيتها إلى الدولة وذلك مثل الأموال التي اختلسها الموظف أو مبلغ الرشوة الذي حصل عليها، وكذلك أيضا نزع ملكية ممتلكات المجرم والتي تعادل قيمتها قيمة ما تحصل عليه من عائدات إجرامية وذلك إذا ما تصرف هذا الأخير في تلك العائدات كمصادرة سيارته الخاصة ومجوهراته وعقاراته، كما نصت أيضا تلك المادة على” مصادرة الممتلكات أو المعدات أو الأدوات الأخرى التي استخدمت أو كانت معدة للاستخدام في ارتكاب أفعال مجرمة وفقا لهذه الاتفاقية”.
وقد توسعت الاتفاقية في نص المادة 31 سالفة الذكر لمحاولة محاصرة العائدات الإجرامية ومصدرتها ومنع أي تلاعب قد يحدث لتغير صورتها وتضليل الوصول إليها ولكن يعيب عليها إنها قد نصت على إمكانية مصادرة المنافع المتحصلة من تلك العائدات على الرغم من استحالت ذلك من الناحية الواقعية والقانونية أنا لم تكن تلك المنافع ذات طابع مادى.
ولم يكتفي واضعي اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد على ذلك بالنسبة لعلاج الضرر المادي للجريمة (باسترداد الموجودات) بل قد خصصوا الفصل الخامس منها لذلك الشأن واستهلوه بالتأكيد على أن استرداد الموجودات هو مبدأ أساسي في هذه الاتفاقية وعلى الدول الأطراف أن توفر أكبر قدر من التعاون والمساعدة في هذا المجال ، كما ضمنوه آليات استرداد تلك الموجودات وطرف التعاون الدولي في هذا الشأن.
إلا إننا نجد على الرغم من الاهتمام البالغ لواضعي الاتفاقية بهذا الشأن فإنها قد جاءت دون تحقيق غرضها المأمول وهو إعادة الموجودات المنهوبة إلى صاحبها الأصلي أي البلد التي تم فيها الجرم الأصلي وتعد تلك الموجودات جزء من رأس مالها،
فنجد أنه أثناء الأعمال التحضيرية لإبرام هذه الاتفاقية قد تم حذف عبارة “إعادة الأموال المنهوبة إلى بلدان الأصل” من مادتها الأولى، كما انه قد جاء بالمادة 57 منها “أن ما تتم مصدرته نتيجة لكونه من عائدات الفساد يتم التصرف فيه بطرق منها إرجاعها إلى مالكيها الشرعيين السابقين” مما يدل على كون إعادة تلك العائدات إلى أصحابها ليس الطريق الوحيد للتصرف فيها بل من الممكن أن يكون هناك أوجه تصرف أخرى،
وبذلك أصبح للدول الأطراف حرية التصرف في تلك الموجودات المصادرة وليست ملزمة بإعادتها إلى الدولة التي سرقة منها كما أن وجه التصرف في تلك الممتلكات الذي حددته المادة سالفة الذكر وهو إعادتها إلى مالكيها الشرعيين السابقين لم يؤدى إلى الغرض المقصود منه، حيث أن عبارة “مالكيها الشرعيين السابقين” قد تؤدى إلى تولد نزاع بين العديد من الأطراف حول أي منهم هو مالكها الشرعي نظرا لما تحمله تلك العبارة من غموض،
وجدير بالذكر في هذا الشأن أن عبارة مالكيها الشرعيين قد جاءت بدلا من عبارة بلدان الأصل والتي كانت موضوعه في البداية مما يدل على كون هناك من يقوم بمحاولة أضعاف مبدأ إعادة الأموال المتحصلة عن جرائم الفساد إلى بلدانها الأصلية وهو ما يعد في حد ذاته فساد يجب مكافحته.
وفى النهاية يجب أن تعرف جميع الدول الأطراف في هذه الاتفاقية أنه لابد من إعادة تلك العائدات إلى بلدانها الأصلية وإلا أصبحت تلك الاتفاقية عديمة القيمة ولا تحقق الغرض المرجو منها.
ويترتب على ارتكاب جرائم الفساد تشويه صورة النزاهة العامة وفقدان الثقة خصتا عندما ترتكب تلك الجرائم من قبل القيادات العامة والذين يمثلون قدوة للمجتمع فضلا عن تولد الشعور باللامبالاة لدى أفراد المجتمع وخصتا الشباب وعدم رغبتهم في سلوك الطريق القويم للنهوض بمستوى المجتمع في شتى المجالات، وبالتالي يترتب في النهاية على ذلك خلق مجتمع عقيم غير قادر على إنجاب بذور صالحة ومتميز بالجهل والفقر.
ولعلاج ما ترتب من ضرر معنوي بالمجتمع نتيجة لارتكاب جرائم الفساد يلزم القيام بالآتي:
1- على الحكومة: –
أ – اتخاذ الإجراءات اللازمة لمعاقبة مرتكب تلك الجرائم بعقوبات رادعة تتناسب مع ما ارتكبوا من جرم ومنها رفع الحصانات والتي تكون ممنوحة لبعضهم وتحول دون عقابهم، على أن يتم ذلك فور اكتشاف تلك الجرائم وكون مرتكبيها في أزاها صورهم حتى يكونوا عبرة للمجتمع ودليل على أنه ليس هناك من هو فوق القانون مما يعيد الثقة مرة أخرى في نزاهة السلطات الحاكمة وسيادة القانون.
ب – الالتزام بالشفافية بينها وبين المجتمع بتيسير سبل معرفة هذا الأخير بما تقوم به من دور في شتى المجالات وخطاطها المستقبلية والعمل على مشركته في أعدادها بحيث تكون متوائمه معه.
ج – تسهيل سبل وصول أفراد المجتمع إلي متخذين القرارات لعرض آرائهم بشأنها وما يرونه غير متناسب معهم والتقليل من السلطات التقديرية المتاحة لصناع القرار.
د – تشجيع أن يكون الاختيار في تولى المناصب والترقيات على أساس الجدارة.
ھ – تبسيط الإجراءات واللوائح واستخدام تقنية المعلومات والاتصالات لإجراء تحول إيجابي في تقديم الخدمات العامة.
و – توفير المناخ المناسب للمجتمع المدني حتى يستطيع أن يقوم بدوره.
2 – على المجتمع المدني: –
أ – كشف الفساد وتعبئة الرأي العام ضده بحيث يتولد لدى أفراد المجتمع أن مرتكب الجريمة هو شخص منبوز ولا يصلح أن يكون قدوة حتى وأن كان من الأثرياء، إذ تعلو الأخلاق على المادة، وهو ما يمثل علاج نفسى يساعد الشباب على تخطى أزمة انتشار الفساد بين كبار المسئولين والأثرياء واللذان يتخذهما الشباب قدوة لهم.
ب – تفعيل دور الصحافة في كشف الفساد على أن تلتزم هذه الأخيرة بنشر المعلومات الصحيحة والمؤكدة ومحاسبتها إذ مالم تلتزم بذلك
3 – على المجتمع الدولي: –
أ – التعاون والتنسيق بهدف محاصرة وكشف وقطع خطوط الاتصال بين مرتكبي جرائم الفساد مما يعطى الانطباع بتكاتف الدول لمكافحة السلوك الفاسد.
ب – منح الخبرات إلى الدول التي تعاني من تفشى الفساد لمساعدتها على التغلب عليه.
ج – فرض نوع من الرقابة لضمان اتباع الدول لمبادئ الشفافية والنزاهة والمسائلة في أنظمتها وذلك دون اعتداء على سيادتها الداخلية.
ولعل يتضح لنا الآن سبب عدم قدرة الحكومة المصرية على مكافحة الفساد وتضخمه المستمر حيث لم تهتم هذه الحكومة بمعالجة الضرر المعنوي المترتب على ارتكاب جرائم الفساد مما تولد معه لدى أفراد المجتمع أن الفساد هو المبدأ والقيم والأخلاق والشرف والنزاهة هي الاستثناء وذلك بالطبع بجانب عدم اتباعها السبل الرشيدة في الحكم القائمة على الشفافية والنزاهة والمسائلة ومساعدة المجتمع المدني للنهوض بفكر المجتمع وحذرها الدائم من أي منشأة أو جهاز ليس له ذات اتجاهاتها وأن لم تكن له أي اتجاهات سياسية.