في ۲۱ ديسمبر 2008 نشرت صحيفة ” الحياة ” اللندنية الناطقة باللغة العربية مقالا للكاتب اللبناني العلمانى كرم الحلو شن فيه حملة من الحقد والغل الصريح على مجموعة من قامات الثقافة والفكر المصريين والعرب ، لا لسبب إلا لأنهم عادوا إلى أحضان دينهم بعد فرقة مؤقتة، كانوا فيها يبحثون عن الحقيقة تحت تأثير أفكار وأيديولوجيات خادعة، أو كانوا مبهورين بالغرب، معتقدين أن أسلوب حياته المتحللة من الدين هى التى أوصلته إلى درجة عالية من الحضارة العلمية والتكنولوجية، وعلينا أن نتشبه به إن أردنا أن نبلغ مابلغ من التحضر والتقدم العلمى، ثم بعد أن اتسع أفق الرؤية أمامهم عادوا إلى الصواب .
مقال كرم الحلو بعنوان ” المآلات البائسة للعقلانية النقدية العربية .. الجابري نموذجاً “، كاشف للكيفية التي يفكر بها المتطرفون العلمانيون فى بلادنا، الذين يوهمون الناس بأن المجتمعات لا يمكن أن تتطور إذا ظلت مرتبطة بالعقيدة الدينية، وأن المفكرين الذين يربطون بين الدين والحداثة، وبين الأصالة والمعاصرة، هم مفكرون بائسون منكفئون، حتى لو كانوا في قامة طه حسين والعقاد وعلى عبد الرازق وزكي نجيب محمود وعبد الرحمن بدوى، وأخيراً المفكر المغربي الكبير محمد عابد الجابري، الذي وضع اسمه في العنوان ليكون نموذجا لأصحاب المآل البائس، فقط لأنه عاد إلى الدين مثل سابقيه، وجعل الدين محركا للإصلاح والتطور في مشروعه الفكري، وبالتالي فإنه يستحق أن يخرج من دائرة “العقلانية النقدية “، التى يرفع لواءها الكاتب الناقم .
يقول الحلو في مقاله : “عرفت بدايات القرن العشرين منحي عقلانياً هشأ لم يلبث أن انكفأ إلى مواقع دفاعية مستسلماً، معلنا اعتذاره وإذعانه وارتماءه من جديد في أحضان الأيدولوجيا السائدة ـ يقصد الدين ـ فطه حسين الذي كتب ” في الشعر الجاهلي ” عام ١٩٢٦ مستلهما روح الشك الديكارتي، ومستخدماً منهج النقد التاريخي، لم يلبث أن اتجه عام ١٩٣٣ وجهة إيمانية رومانسية، بعيدة عن العقلانية النقدية التي انتهجها في” الشعر الجاهلي “، وتكرر المنحى التراجعي الانكفائي مع عباس العقاد ومحمد حسين هيكل وتوفيق الحكيم، فوضع هؤلاء مؤلفات ذات منحى إيمانی مختلف عما كانوا قد بشروا به، وفي هذا المنحى التراجعي يمكن أن تدرج أيضا إسماعيل مظهر الذي انتقل من “الداروينية” إلى انتقاد فصل الدين عن الدولة، والدعوة الى الجامعة الإسلامية، وعلى عبد الرازق الذي عزف عما كان قد طرحه في كتابه ” الإسلام وأصول الحكم ” عام ١٩٢٥ من دعوة إلى السلطة المدنية، وكذلك زكي نجيب محمود وعبدالرحمن بدوى”.
ويضيف الحلو قائلا : ” إلا أن اللافت في الثلث الأخير من القرن الماضي، المآل البائس للمثقف العقلاني العربي، وعجزه عن مواجهة التيار الأصولي في القاعدة الشعبية العريضة، وليس أدل على ذلك من المأزق الذي انتهى إليه مشروعا محمد أركون ( المفكر الجزائرى) ومحمد عابد الجابري النقديان، اللذان تصدرا المشاريع النقدية العقلانية في الفكر العربي المعاصر”.
وهكذا فإن الكاتب ” الحلو” يرى أن قمة العقلانية تكون في نفي الدين من مشروعات النهضة الفكرية، أو فى الصدام بين هذه المشروعات والدين، أما إذا عاد صاحب المشروع الفكري إلى التصالح مع الدين، فإنه بذلك يكون قد انتهى إلى المآل البائس، وعجز عن مواجهة التيار الأصولي ذي القاعدة الشعبية العريضة، وغنى عن البيان أن التيار الأصولي المقصود هنا هو الإسلام .
وياليت دعاة التطرف الديني يقرأون تلك المأخذ التي يسجلها هذا ” الحلو” وأمثاله على قادة الفكر في مصر الذين عادوا إلى الدين، وانتهوا إلى قناعة كاملة بأن التجديد والتحديث لا يمكن أن يتم إلا من خلال الدين .
ومن الغريب أن الكاتب يوجه نقده اللاذع أيضا إلى ابن رشد الذى يعتبره الغرب رائد الاتجاه العقلانى، لكنه انتهى في خاتمة المطاف إلى إخضاع الفلسفة للشرع، ويصب جام غضبه على الجابري، لأن الرجل في آخر كتبه ” نحو مشروع حضاری نهضوي عربي ” الصادرعام ٢٠٠١، أثنی علی ابن رشد، ورأى أنه وحده هو الصحيح، مؤكدا أنه ” سواء تعلق الأمر بالعلاقة بين الدين والفلسفة، أو بالعلاقة بين الإسلام والحداثة المعاصرة، فإن ترتيب هذه العلاقة يجب أن يتم من داخل الشرع، لا من خارجه، إذ أن كل ما يقع خارج الشرع يجب أن يلتمس المشروعية داخله، والخطوة الأولى بحسب هذه الطريقة هي وضع قضايا الحداثة في ميزان الشرع، ميزان الوجوب والمنع والمندوب والمكروه والمباح “.
والجابري بهذا الشكل لا يرضى الحلو وأمثاله، فهو ينادي بعقلانية فى إطار الدين، تختلف عن العقلانية التي تؤمن باستقلالية العقل الإنساني وتحرره من أية وصاية دينية، بينما الحلو لايرى أية عقلانية وأية حداثة بدون علمانية .
ويرد الحلو على عودة الجابري وخروجه من محراب العلمانية بطرح عدة أسئلة محرجة عليه، طالبا منه أن يقدم إجابات عقلانية عليها مثل : لماذا لم يستطع العقل العربي أن يفلت من القيود والضغوط التي قیدت حركته ؟! ولماذا ظلت حداثتنا قاصرة وعاجزة عن إنتاج العلم والتكنولوجيا ؟! ولماذا استمر التخلف السياسي والاقتصادي وتعطلت حقوق الإنسان في مجتمعاتنا؟!