تنصرف حرية الفكر في جوهرها إلى حق الفرد في تبني الأفكار والآراء عن قناعة والتصريح بها علناً فلا فائدة من اعتناق الفرد للأفكار دون امكانية التعبير عنها قولاً او كتابة او بأي شكل آخر ، فحرية الفكر وحرية التعبير وجهان لعملة واحدة
, وأن مكافحة الارهاب الفكري واحدة من أهم الامور التي لابد من أن تجد لها أساس دستوري كان أو قانوني ، سواء في الدساتير القديمة أو في دستور 2005 ، وسواء في قانون العقوبات المعدل أو في قانون مكافحة الارهاب النافذ أو في قانون المطبوعات ، أو في القوانين و الاعراف الدولية ، وكذلك لابد من البحث في الاساس القضائي لمكافحة هذه الظاهرة ، وهذا يتطلب منّا البحث عن اساس مكافحة هذه الظاهرة وذلك في المطالب الآتية .
المطلب الاول
الاساس الدستوري لمكافحة الارهاب الفكري
لدراسة أساس مكافحة الارهاب الفكري هذا يتطلب منا البحث في الدساتير العراقية الملغاة ابتداء من القانون الاساس عام 1925 وحتى الدستور النافذ لسنة 2005 ، وذلك لمعرفة اساس مكافحة هذه الظاهرة وذلك في الفرعين التاليين ، والذي خصصّنا الفرع الاول منهما للبحث في مكافحة الارهاب الفكري في الدساتير الملغاة ، والفرع الثاني للبحث في مكافحة الارهاب الفكري في دستور 2005 النافذ
الفرع الاول
مكافحة الارهاب الفكري في الدساتير الملغاة
إن دراستنا في هذا الفرع تتضمن البحث في الدساتير العراقية الملغاة ابتداء من القانون الاساس 1925 ، وحتى دستور 16 تموز لسنة 1970 المؤقت ، وذلك للبحث في اساس ظاهرة الارهاب الفكري فيها بالتتابع وكالآتي :
بالنسبة للقانون الاساس فقد جاء في الباب الاول منه والذي يتعلق بحقوق الشعب ، حيث انه نصّ في المادة الثانية عشر ( للعراقيين حرية ابداء الرأي والنشر والاجتماع ….) ، هذا يعني أن كل ما يتعلق بالحريات سواء في حرية ابداء الرأي والنشر وغيرها قد تم تنظيمها منذ عام 1925 ، أي في القانون الاساس ،
وجاء في المادة الثالثة عشرة ( …..حرية القيام بشعائره المألوفة في العراق على اختلاف مذاهبه محترمة لا تمس وتضمن لجميع ساكني البلاد حرية الاعتقاد التامة وحرية القيام بشعائر العبادة ….) ، من خلال ملاحظة نص هذه المادة أيضاً نجد أن المشرع تطرق الى حرية ممارسة الشعائر الدينية وحرية الاعتقاد التامة وبذلك يكون قد منع ظهور الارهاب الفكري بدوافع دينية . هذا يعني أن ظاهرة الارهاب الفكري قد تم مكافحتها منذ ذالك التاريخ ، وبالتالي فأن ظاهرة الارهاب الفكري قد تم معالجتها من تاريخ القانون الاساس . أمّا دستور 27 تموز 1958 المؤقت فقد جاء في الباب الثاني منه والذي كان تحت عنوان مصدر السلطات والحقوق والواجبات العامة ، وفي المادة العاشرة منه (حرية الاعتقاد والتعبير مضمونة وتنظم بقانون ) ، أما المادة الثانية عشر فقد نصت
على ( حرية الاديان مصونة وينظم القانون اداء وظيفتها ، على ان لا تكون مخلة بالنظام العام ولا متنافية مع الآداب العامة ) ، هذا يعني أن الارهاب الفكري قد تم معالجته في دستور 1985 المؤقت ، وذلك من خلال ملاحظة نص هاتين المادتين نجد أن الدستور قد ضمن الحق في حرية الاعتقاد والتعبير وترك امر تنظيمها الى القانون ، كذلك بالنسبة الى حرية الاديان فقد نظمها بالقانون ، وبالتالي نجد هنا أساس لمكافحة الارهاب الفكري .
وبالنسبة لدستور 4 نيسان لسنة 1963( قانون المجلس الوطني لقيادة الثورة رقم 25 لسنة 1963) فقد أحتوى هذا الدستور على عشرين مادة قسمت الى سبعة اقسام متميزة بعناوينها من غير أن تحدد تحت ابواب أو فصول ، تعلقت جميعها بتكوين المجلس الوطني لقيادة الثورة وسلطاته وحصانات اعضائه وجلساته والتصويت فيه وغيرها ، آلا أن مواد هذا الدستور قد جاءت خالية من الافكار والمبادئ الاساسية والتي تتعلق مثلا بحقوق وحريات افراد الشعب ، واقتصرت على بحث اسلوب ممارسة السلطة من قبل المجلس الوطني لقيادة الثورة فقط .
أمّا دستور 22 نيسان لسنة 1964 ( قانون المجلس الوطني لقيادة الثورة رقم 61 لسنة 1964 المعدل ) نلاحظ أن هذا الدستور هو قانون للمجلس الوطني لقيادة الثورة ، من حيث تناوله لأعضاء المجلس الوطني وشروط العضوية فيه وسلطاته وحصانات اعضائه و الخ ….
أمّا دستور 29 نيسان 1964 فقد احتوى هذا الدستور على مائة وستة مواد ، وبذلك يكون اوسع وثيقة دستورية صدرت منذ قيام الجمهورية 1958 ، وقد وزعت مواده على ستة ابواب ، تطرق في الباب الثالث منه الى الحقوق والواجبات العامة ، وجاء في المادة 29 منه على أن ( حرية الرأي والبحث العلمي مكفولة ولكل انسان حق التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو التصوير او غير ذلك في حدود القانون ) ، وفي المادة الثامنة والعشرون نصت على أنه (حرية الاديان مصونة وتحمي الدولة حرية القيام بشعائرها.
ومن هذا نجد أن هذا الدستور قد تطرق الى مكافحة الارهاب الفكري من خلال كفالته لحرية الرأي وحق التعبير عنه بأي وسيلة كانت شفهية كانت أو تحريرية مدام ذلك في حدود القانون ، وكذلك عندما نص على حرية الاديان وحرية القيام بالشعائر الدينية هذا من اجل القضاء على كل ما من شأنه خلق حالة من الارهاب الفكري وبالتالي فقد قام المشرع بإعطاء الدولة واجب حماية ممارسة الشعائر الخاصة بالأديان المختلفة .
وكذلك بالنسبة لدستور 21 أيلول لسنة 1968 المؤقت فقد أحتوى هذا الدستور على خمس وتسعين مادة موزعة على خمسة ابواب ، نظم في الباب الثالث منه الحقوق والواجبات العامة ، وفي المادة الحادية والثلاثونمنه جاء فيها ( حرية الرأي والبحث العلمي مكفولة ولكل انسان حق التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو التصوير او غير ذلك في حدود القانون ) ، وفي المادة الثلاثون منهنصت على ( حرية الاديان مصونة وتحمي الدولة حرية القيام بشعائرها …) .
أن هذا الدستور كدستور 29 نيسان 1964 أيضاً جاء فيه ما يدل على مكافحته للإرهاب الفكري ، وذلك من خلال نصوصه واضحة الدلالة ، والتي اعطت الحق لكل انسان في حرية الرأي والتعبير عنه ، وكذلك لصيانته حق ممارسة الشعائر الدينية ، وبالتالي فيمكن عده كأساس لمكافحة الارهاب الفكري في الدساتير .
وأخيراً بالنسبة لدستور 16 تموز سنة 1970 المؤقت وفي الباب الثالث منه وتحت عنوان الحقوق والواجبات الاساسية ، وفي المادة ستة وعشرون من الدستور نص على أنه ( يكفل الدستور حرية الرأي والنشر والاجتماع والتظاهر و تأسيس الاحزاب السياسية والنقابات والجمعيات وفق اغراض الدستور وفي حدود القانون ، وتعمل الدولة على توفير الاسباب الازمة لممارسة هذه الحريات التي تنسجم مع خط الثورة القومي التقدمي )
، أما المادة الخامسة والعشرون منه فقد نصت على أنه ( حرية الاديان والمعتقدات وممارسة الشعائر الدينية مكفولة على ان لا يتعارض ذلك مع احكام الدستور والقوانين وان لا ينافي الآداب والنظام العام ) ، فقد جاء في نصوص هذه المواد ما يدل على أن دستور 1970 كبقية الدساتير السابقة قد قام بمكافحة الارهاب الفكري أيضاً ، بكفالته لحرية الرأي والنشر والأديان و المعتقدات وحرية ممارسة الشعائر الدينية و الخ ، وبالتالي نجد هنا اساس لمكافحة الارهاب الفكري في الدساتير .
الفرع الثاني
مكافحة الارهاب الفكري في دستور جمهورية العراق لسنة 2005 النافذ
كما حرص الدستور العراقي لعام 2005 على مكافحة الارهاب الفكري من خلال نصه على حرية الفكر وحرية التعبير وحرية ممارسة الشعائر الدينية ، اذ نص على حرية التعبير في المادة ( 38 أولاً )( ) بقوله (تكفل الدولة وبما لا يخل بالنظام العام والآداب حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل ) ، كما نص على حرية الفكر في المادة ( 42 )( ) بقوله ( لكل فرد حرية الفكر والضمير والعقيدة ) ، أي أن دستور 2005 قد انفرد عن غيره من الدساتير ، فقد جاء منظماً لحرية الفكر ، والتي لم نجد لها نصاً ينظمها في الدساتير الملغاة ، وبالتالي فأن دستور العراق لسنة 2005 النافذ قد كافح الارهاب الفكري من خلال نص المادتين السابقتين فلم يكتفي بالنص على حرية التعبير عن الرأي بل أضاف لها حرية التفكير والضمير والعقيدة وبالتالي لم يدع مجالاً لتفشي ظاهرة الارهاب الفكري .
وكذلك جاء في نص المادة السابعة والثلاثون ثانياً ( ) (تكفل الدولة حماية الفرد من الاكراه الفكري والسياسي والديني ) ، وهذا النص واضح الدلالة فقد حرص المشرع على حماية الفرد من ان يتعرض الى الاكراه سواء أكان أكراه فكري أو سياسي أو ديني وهذا كله له دور في القضاء على ظاهرة الارهاب الفكري . وأعطى المشرع ايضاً الحق لأتباع كل دين او مذهب في ممارسة الشعائر الدينية وهو بذلك قد خطى خطاً واضحً في مكافحة الارهاب الفكري وذلك في نص المادة الثالثة والأربعون اولاً ( ) ( اتباع كل دين أو مذهب احرار في :
أ ـ ممارسة الشعائر الدينية ……) ، كما نص في المادة السابعة منه على ( اولاً :ـ يحظر كل كيانٍ او نهجٍ يتبنى العنصرية او الارهاب او التكفير أو التطهير الطائفي ) . من خلال ملاحظة النصوص السابقة وكذلك ما نص عليه المشرع الدستور في المادة الثالثة منه على ان ( العراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب ….) ، نجد أن موقف المشرع من ظاهرة الارهاب الفكري موقف واضح ، فقد حرص على مكافحتها على اختلاف صورها وأنماطها ، وبذلك فان المشرع كان موفقاً في موقفه من ظاهرة الارهاب الفكري ومسلك لم تشهد مثله الدساتير السابقة له .
الاساس القانوني لمكافحة الارهاب الفكري
إن الارهاب الفكري من الظواهر التي لابد للقوانين من مكافحتها ، ومن هذا سوف نبحث في قانون العقوبات المعدل وفي قانون مكافحة الارهاب النافذ لمعرفة كيفية مكافحة الارهاب الفكري في ظل هذه القوانين ، وذلك في الفروع التالية .
مكافحة الإرهاب الفكري في قانون العقوبات رقم 111 لعام 1969 المعدل
لقد تطرق قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل الى مكافحة ظاهرة الارهاب الفكري وذلك من خلال تتبع نصوص بعض مواده ، التي فرضت عقوبات صارمة على من يقوم بإثارة كل ما يمكن أن يعد إرهاباً فكرياً ، وهو بذلك كان موفقاً لمعالجته لهذه الظاهرة بالغة الخطورة ، والتي لا يمكن مواجهتها إلا بنصوص قانونية تحد من آثارها ، وحيث سبق وأن وضحنا بأن كل الاعمال المادية للإرهاب مسبوقة بإرهاب فكري ، وبهذا نلاحظ خطورة هذه الظاهرة لو لم يتطرق المشرع لمعالجة حالات الارهاب الفكري بنصوص قانونية ، ومن خلال ملاحظة نص المادة (195 )( ) والذي نص على (يعاقب بالسجن المؤبد من استهدف اثارة حرب اهلية أو اقتتال طائفي وذلك بتسليح المواطنين أو بحملهم على التسلح بعضهم ضد البعض الآخر أو بالحث على الاقتتال . وتكون العقوبة الاعدام أذا تحقق ما استهدفه الجاني )
فرض المشرع عقوبة السجن المؤبد على من استهدف اثارة حرب اهلية أو اقتتال طائفي ، ومن هذا نجد أن اثارة الحرب الاهلية أو الطائفية يكون بسبب فكرة ارهابية تؤدي بالنتيجة الى هذه الحروب ، وذلك سواء بتسليح المواطنين أو بحملهم على التسلح بعضهم ضد البعض الآخر أو بالحثّ على الاقتتال ، وقد شدد المشرع العقوبة لتكون الاعدام في حال أذا تحقق ما قصده الجاني وما استهدفه .
وكذلك جاء في المادة 372 ( ) ( 1 ـ من اعتدى بأحدى طرق العلانية على معتقد لأحدى الطوائف الدينية أو حقر من شعائرها .
2 ـ شعائر من تعمد التشويش على اقامة شعائر طائفة دينية أو على حفل أو اجتماع ديني أو تعمد منع أو تعطيل أقامة شيء من ذلك .
3 ـ من خرب أو أتلف أو شوه أو دنس بناء معداً لإقامة شعائر طائفة دينية أو رمزاً أو شيئاً آخر له حرمة دينية .
4 ـ من طبع ونشر كتاباً مقدساً عند طائفة دينية أذا حرف نصه عمداً تحريفاً يغير من معناه أو استخف بحكم من احكامه أو شيء من تعاليمه .
5 ـ من أهان علناً رمزاً أو شخصاً هو موضع تقديس أو تمجيد أو احترام لدى طائفة دينية .
6 ـ من قلد علناً نسكاً أو حفلا دينياً بقصد السخرية منه ).
لقد سبق وأن أوضحنا انماط أو أساليب الارهاب الفكري ومنها الاساءة الى الاديان أو المذاهب أو الرموز الدينية ، وبذلك يكون نص هذه المادة قد عالج حالة من حالات الارهاب الفكري وقد فرض على مرتكبي اي فعل من هذه الافعال عقوبة وهي الحبس لمدة لا تزيد على ثلاث سنوات أو بغرامة ، وان فرض عقوبة على مرتكبي الارهاب الفكري يعني ان المشرع اراد من هذا الحكم القضاء على هذه الظاهرة ومكافحتها ، وهذا يعني ان المشرع كان موفقاً في هذا الاتجاه الذي قد سلكه .