إن الأدب ليس دائمًا تعبيرٌ عن الذات؛ لأنه لا يمكن بأي شكل إنكار (الصنعة) في الأدب وإسقاط نظرية المنهج النفسي عليه للي أعناق النصوص؛ ولأجل هذا يبقى المنهج النفسي قاصرًا عن تحديد العَلاقة بين المبدع والعمل الأدبي، وإثبات كل الخلفيات وراء العملية الإبداعية؛ لأن المبدع بكل بساطة لا يقول كل شيء، والمسكوت عنه أكثر مما يقال في ثنايا النصوص
القتل والسرقة بالإكراه والإحراق العمد والاحتيال والعنف الأسري وإساءة معاملة الأطفال والابتزاز والاغتصاب وغيرها من الجرائم هي قوام الواقع والخيال، وهي موجودة على الدوام، بل إن الإنجيل نفسه يحوي القتل والاحتيال في إصحاحاته الأولى. إن اهتمامنا بعمليات الجريمة والقانون مرده دومًا إلى محاولات فهم أفعال الأفراد وتعديلها؛ لذلك، رغم الصلة الوثيقة بين الاقتصاد والسياسة والدراسات الاجتماعية القانونية وعلم الاجتماع جميعها من ناحية ودراسة الجريمة والإجرام من ناحية أخرى، فإن صميم الجرائم كلها هو البشر.
وقد يكون هؤلاء البشر أولئك الذين تشكل أفعالهم الجريمة، أو أولئك الذين يحاولون حل ألغاز الجريمة، أو يحكمون فيها، أو يسيطرون على الجناة، أو يساعدون ضحاياها. بمعنًى آخر، في كل مرحلة من النظام الجنائي ثمة عمليات نفسية ينبغي معالجتها. ويشكل فهم هذه العمليات وتطبيقاتها أساس علم النفس الشرعي. من ثَمَّ، علم النفس الشرعي هو التطبيق لجميع جوانب القانون وإدارة الجريمة والمجرمين، من خلال الممارسة المهنية للأسس والنظريات والأساليب المستمدة من الدراسات العلمية والإكلينيكية للأفعال والخبرة البشرية.
وهكذا يتمتع علم النفس الشرعي أيضًا برافد بحث أكاديمي متين يهتم اهتمامًا خاصًّا بسيكولوجية مخالفة القانون. وعلى مستوى المفاهيم، نتيجة لذلك، يحتل علم النفس الشرعي موقعًا وسيطًا بين علم الجريمة والطب النفسي الشرعي وعلم القانون، معتمدًا أيضًا على فروع أخرى متنوعة من المعرفة، مثل: الدراسات الاجتماعية القانونية، والجغرافيا الإنسانية، وعلم النفس الإكلينيكي، وعلم نفس النمو، وعلم النفس الاجتماعي، والقياس النفسي.
لأولئك الذين لم يتطرقوا إلى هذا العلم من قبل، تجدر الإشارة إلى أن الطب النفسي تخصُّص طبي يركز تركيزًا قويًّا على المرض العقلي. ولا يحمل علماء النفس عادةً مؤهلات طبية؛ فهم يدرسون الأفعال والخبرات البشرية بوصفها فرعًا علميًّا.
ويذهب بعض علماء النفس إلى التخصص في مساعدة الأشخاص المضطربين عقليًّا. ويطلَق عادة على علماء النفس هؤلاء «علماء النفس الإكلينيكيين»، ويعملون مع أطباء النفس وغيرهم من المتخصصين في الصحة العقلية؛ وعليه، ثمة فارق بين ممارسي علم النفس الشرعي وممارسي الطب النفسي الشرعي؛ فممارسو الطب النفسي الشرعي هم أطباء في الأساس لهم الحق في وصف أدوية، أما ممارسو علم النفس الشرعي فيستمدون مساهماتهم الرئيسية من العلوم الاجتماعية والسلوكية. لعل الفارق بين علم النفس الشرعي وعلم الجريمة هو الأصعب فهمًا بالنسبة لمن هم خارج هذين الفرعين من المعرفة. وينشأ خلط آخر نتيجة أن التداخل بين هذين الفرعين في الولايات المتحدة أكبر بكثير منه في المملكة المتحدة. ويمكن أن يحدث فهم خاطئ آخر بسبب استخدام مصطلحات مثل «علم التحقيق الجنائي» و«علم النفس الجنائي».علم الجريمة — بأبسط ما يمكن — هو دراسة «الجريمة». وهو يبرز أسبابًا اجتماعية وأنماطَ وتطوراتِ وسبلَ خفضِ الجريمة. وفي المقابل، علم النفس الشرعي هو دراسة «المجرمين»؛
لذا، رغم أن كثيرًا من علماء النفس الشرعيين قد يوافقون على أن مستويات الفقر ذات تأثير مهم على معدلات الجريمة، فإنهم لن يدرسوا هذه العلاقة على النحو الذي سيدرسها به علماء الجريمة، بل سيكون علماء النفس الشرعيون معنيين بشكل مباشر أكثر بالأسباب التي تجعل بعض الفقراء يرتكبون الجرائم بينما لا يُقدِم آخرون على ارتكابها؛ ومن ثَمَّ، لن نشغل أنفسنا في هذا الكتاب بمعدلات الجريمة أو الجوانب الاجتماعية الأخرى للجريمة، على أهميتها الواضحة.
ثمة فارق أخير جدير بالذكر؛ وهو الفرق بين علم النفس الشرعي والطب الشرعي. فالأخير نابع من دراسة الكيمياء وعلم السموم والفيزياء وعلم الأمراض والعلوم الطبيعية الأخرى. فمثلًا: إجراء فحص طبي لضحية اغتصاب سيكون خارج نطاق اختصاصي كعالِم سلوكي — رغم أن محامين لا يعرفون الفرق طلبوا مني ذلك — تمامًا مثلما سيكون تشريح الجثث أو اختبار السموم في عينة دم خارج اختصاصي؛ فهذه كلها جوانب من علم الأمراض الشرعي والطب الشرعي.
لقد تحمَّل المُبدِع المسلم مهمَّة الاستِخلاف؛ كي يُحَوِّل العالم إلى عِبادة الله، فهو يرى نفسَه دائمًا في موضع المسؤوليَّة الحضاريَّة، فكل يوم في حياته خطوة أملٍ وعطاء متجدِّد، وتوظيف للمشروعات الفرديَّة والمؤسَّسيَّة التي تُحَقِّق لأمَّتنا القوَّة الحضاريَّة والنهوض المُلائِم لشخصيَّتنا الكونيَّة، وتقْضِي على التخلُّف الحضاري الذي يجرُّ العالم الإسلامي للوراء دائمًا.
عندما تَتفاعَل جهودُ المُبدِع مع طموحاته وآماله، وتتعزَّز صِلته بالقِيَم الأخلاقيَّة، وعندما تنسَجِم نفسُه مع رسالة الكون الذي يُسبِّح بحمْد الله من حوله، فإنَّ مَوْهِبته تصقل، ولا تتعثَّر قدراتُه، بل تنطَلِق للعمل والإنتاج، إنَّ ثقتَه بقدراته تجعَلُه في غاية الإيجابيَّة والعزَّة، فهو يرفَعُ رأسَه ولا يذلها؛ لأنَّه يستمدُّ قوَّته الإبداعيَّة مِن احترام التَّكلِيف الإلهي الذي جاء ليُقِيم الحقَّ، كما أنَّه لا يُؤجِّل عملَ اليوم إلى الغد، أو يتأخَّر عن القِيام بمسؤوليَّاته.
وبهذه النفسيَّة المتوازِنة المطمئنَّة تَتَحَقَّق النَّهْضة الحضاريَّة، وينحَسِر خوف المُبدِع وتردُّده وكسله، وينتَصِر على همومه ومخاوفه، وتُصبِح قوَّته النفسيَّة هي غذاءَه اليومي الذي يُجَدِّد دماءَ الإبداع في مواهِبِه وقدراته.
إنَّ المُبدِع المسلم الذي لا يُهدِّد إرادتَه شعورٌ بالنقص، أو إحساسٌ بالضعْف، أو انحِسار طاقاته، يحمل في أعماقه كلَّ خَصائص الخير والفاعليَّة والنجاح والتميُّز، كما أنَّه باحتِرامه لإنسانيَّته وشخصيَّته واعتِدال هذه الشخصيَّة وتوازنها – يصبح مِفتاحًا لإنجازاتٍ واسعة، وأداةً لخيرٍ كبيرٍ تناسب احتياجات زمانه ومكانه. لا ينبغي أنْ يكونَ لهذا المُبدِع عالَمٌ خاصٌّ يعيش فيه أو ينعَزِل به عن المجتمع، فهو لا بُدَّ أنْ يندَمِج في المجتمع يُعالج سلبيَّاته، ويستَفِيد مِنْ إيجابيَّاته، وأنْ يُتقِن مهارات السلوك القيادي، ويتَّخذ القرارات المنطقيَّة، وأنْ يتهيَّأ نفسيًّا لِقَبُول كلِّ الاحتِمالات التي يُمكِن أنْ تحدُثَ له عندما يتقدَّم أو يتأخَّر، أو يُؤثِّر ويتأثَّر.
ومع ما يتميَّز به المُبدِع المسلم من نُضوجٍ في العقل، ويقَظَةٍ في القلب، وسَعَةٍ في المعرفة والاطِّلاع، فإنَّه لا يَشعُر بالسعادة إلاَّ إذا رسم المعالم الواضحة أمام الناس؛ كي يهتَدُوا ويَصِلُوا إلى الفهم السليم والأحوال المتطوِّرة. إذا وجدتَ مُبدِعًا يَحمِل همَّ الإسلام، ويَتَفانَى في الإصلاح والتغيير من أجْل نهضة الأمَّة الإسلاميَّة، فهذه نعمةٌ عظيمة؛ لأنَّ هذا الدين العظيم عندما تتحرَّك له الهِمَم المُبدِعة انطلاقًا من شمول الإسلام ووسطيَّته، وتكامُله وتوازنه، ينتَشِر بسرعةٍ فائقة، والمطلوب إبداعيًّا مَن إذا تحدَّث بعَث البُشرَى في النفوس، وإذا نصَح أثَّر في العقول والقلوب، وإذا فعَل الخيرَ حرَّك الفِطرَة الإنسانيَّة من حولَه لفعْل الخيرات.
ويقينًا فإنَّ العالَم الإسلامي يستَطِيع أنْ يُقوِّي المدافَعَة الحضاريَّة والمنافَسَة الإبداعيَّة في عالم اليوم والغد، بتَوفِير جيلٍ إبداعيٍّ يتحرَّك في ضَوْءِ المنهج الإسلامي، ويتميَّز بخصائصه النفسيَّة والإبداعيَّة والحضاريَّة؛ ليتمكَّن هذا الجيل من جذْب مَشاعِر العالم وتصوُّراته نحو الإيمان والعلم، فيَسلَم مِن شُرُور الفساد والضلال والظلام، بل ويَسلَم مِن شُرُور أقوال الحضارات الماديَّة وأفعالها المتناقِضة، وما ذلك على الله بعزيز.