على مدى الأسبوعين الماضيين وقع حادثان مهمان كانا سببا فى إعادة إنتاج نفايات فكرية أضرت كثيرا بقضايانا القومية والدينية، الحادث الأول كان محاولة فاشلة لقتل الكاتب المارق سلمان رشدى مؤلف رواية ” آيات شيطانية ” فى أمريكا، والثانى كان حديث الرئيس الفلسطينى محمود عباس عن المحرقة اليهودية ” الهولوكوست ” فى ألمانيا، وقد ثبت أن أضرار الحادثين كانت أكثر من نفعهما، لكنهما على كل حال قدما درسا مهما يجب الإفادة منه لمن يريد أن يخاطب العالم ويتعامل معه باللغة التى يفهمها، وبالكيفية التى تقنعه .
منذ سنوات طويلة ذهب سلمان رشدى إلى زوايا النسيان، لم يعد يظهر إلا فى محاضرات وندوات نادرة، ولم يعد يتذكر روايته القميئة الصادرة عام 1988 وفتوى الخمينى بقتله إلا قلة من المسلمين، الذين عايشوا القصة، لكن شابا أمريكيا من أصول لبنانية يدعى هادى مطر حاول قتله يوم الجمعة 12 أغسطس الجارى بعشر طعنات، وهو يقف على خشبة المسرح خلال مؤتمر بولاية نيويورك، فأصيب بإصابات بالغة فى الرقبة والبطن، لكنه نجا من الموت، وعاد إلى الأضواء مرة أخرى .
بعد هذه المحاولة الفاشلة أصبح سلمان رشدى من جديد نجما فى الصحف ووسائل الإعلام، تتابع أخباره الصحية لحظة بلحظة، وتنشر تصريحاته وآراءه وحكاياته، وتتحدث عائلته عن مناقبه وعبقريته، ويتحدث الكتاب عنه كمؤلف شجاع، استطاع أن يتصدى لـ ” الإرهاب الإسلامى ” وفتوى الخمينى، وينتصر لحرية التعبير، وعادت روايته القميئة تطبع وتوزع من جديد .
لم يكسب الإسلام شبئا من جراء المحاولة الغبية الآثمة، بل خسر خسارة فادحة، وأتيحت الفرصة لمزيد من تشويه سمعة الإسلام والمسلمين، خاصة أولئك الذين يتطلعون إلى التعايش السلمى مع عالمهم والمشاركة فى بناء حضارته، وفتح المجال أمام الآخرين للتعرف على الإسلام الحقيقى وقيمه الرفيعة فى مناخ طبيعى مسالم .
وفى المقابل كسب سلمان رشدى وكل أعداء الإسلام فى الشرق والغرب، فقد أعيد إنتاج المؤلف الفاشل وروايته بعد أن كانا مجرد نفاية من نفايات التاريخ العفنة، وصارت الظروف مهيأة لتقديم روايته للقراء من جديد، على طريقة أن أفضل رد على محاولة القتل وإدانة القاتل والدين الذى ينتمى إليه هو شراء نسخة من ” آيات شيطانية “.
وفى الأسبوع الماضى قام الرئيس الفلسطينى محمودعباس بزيارة إلى ألمانيا، بهدف كسب دعمها لمحاولة انضمام فلسطبن إلى الأمم المتحدة كدولة كاملة العضوية، وطلب مساعدتها فى استئناف محادثات السلام مع الإسرائيليين المتوقفة منذ فترة طويلة، لكن عباس تجرأ خلال الزيارة واتهم إسرائيل فى تصريحاته بارتكاب 50 هولوكوست ضد شعبه، وهنا وقعت الواقعة، وهبت الرياح العاصفة فى وجهه من ألمانيا وإسرائيل معا، إذ كيف تسوغ له نفسه أن يشبه ماتفعله إسرائيل بالمحرقة الجماعية ” الهولوكوست ” التى ارتكبها الزعيم النازى هتلر فى حق اليهود أثناء الحرب العالمية الثانية، وهم قد نجحوا فى إقناع العالم بأن هذه الجريمة ليس لها مثيل على مدى التاريخ الإنسانى، ولا يجوز لأحد أن يقارن بها أية جريمة أخرى .
قال عباس فى المؤتمر الصحفى الذى عقده مع المستشار الألمانى أولاف شولتز عقب الزيارة : ” منذ عام 1947 حتى يومنا هذا ارتكبت إسرائيل 50 مجزرة فى القرى والمدن الفلسطينية، فى دير ياسين وطنطورة وكفر قاسم وغيرها الكثير، 50 مجزرة، 50 هولوكوست، وحتى اليوم، وفى كل يوم، هناك ضحايا يقتلهم الجيش الإسرائيلى “.
وما كاد ينطق كلمة ” هولوكوست ” حتى تمعر وجه مضيفه ” شولتز ” فبدا عابسا، لكنه كتم غيظه إلى أن انتهى المؤتمر الصحفى وصافح عباس مودعا دون أن يرد عليه، ثم فى وقت لاحق كتب على تويتر : ” أشعر بالاشمئزاز من التعليقات المثيرة للغضب التى أدلى بها عباس، بالنسبة لنا كألمان أى مقارنة بين ما حصل فى الهولوكوست وأى حدث آخر هو شيء لا يحتمل وغير مقبول، أدين أى محاولة لإنكار جرائم الهولوكوست “.
وخرجت مقالات وتصريحات لكتاب وسياسيين ألمان يهاجمون شولتز ويعتبرونه مسئولا عن زلة عباس، ولآنه لم يعترض عليه أثناء المؤتمر الصحفى فى مقر المستشارية، لكن الضجة الكبرى كانت فى إسرئيل، التى مازالت تبتز ألمانيا والغرب كله بسبب الهولوكوست، وتعتبر مصطلح ” الهولوكوست ” حقا خالصا لها لا ينازعها فيه أحد .
وقد كتب رئيس وزراء إسرائيل يائير لابيد : ” اتهام عباس لإسرائيل بارتكاب 50 هولوكوست وهو يقف على أرض ألمانية ليس عارا أخلاقيا فقط، لكنه كذبة شنيعة، والتاريخ لن يسامحه، ففى الهولوكوست قتل ستة ملايين يهودى بينهم مليون ونصف مليون طفل “، كما كتب وزير الدفاع الإسرائيلى بينى جانتس : ” تصريحات عباس مروعة، ومحاولة لإعادة كتابة التاريخ، وعلى الحكومة الألمانية الرد على سلوك عباس الذى صدر فى مقر المستشارية ولايمكن إيجاد عذر له “.
وأمام هذا الضجيج اضطر عباس إلى الاعتذار وأصدر بيانا تصحيحيا قال فيه : ” الهولوكوست أبشع الجرائم التى حدثت فى تاريخ البشرية الحديث، لم أقصد إنكار خصوصية الهولوكوست، فهى مدانة بأشد العبارات، لكن المقصود هو المجازر التى ارتكبت بحق الشعب الفلسطينى “.
بالطبع لم يحصل عباس على ما أراد من ألمانيا، وفى الغالب لن يحصل عليه قريبا، لا من ألمانيا ولا من غيرها فى الغرب، فقد فشلت مهمته بسبب زلة لسانه، ومثلما نجح الشاب الأمريكى الأهوج فى إعادة إنتاج سلمان رشدى وروايته نجح عباس فى إعادة إنتاج أكذوبة المحرقة اليهودية، وظهورها إلى الواجهة، ومن الأفضل له أن يستعين من الآن بمن يدله على أن يقول الكلام المناسب فى المكان المناسب .