جاء الاعتراف الرسمي بحرية تداول المعلومات من قبل المحاكم الدولية بعد ذلك بقليل، وكانت أولى هذه المحاكم هي محكمة الدول الأمريكية لحقوق الإنسان٬ في قضية كلود رييس وآخرين ضد شيلي عام 2006 ففي القضية قضت المحكمة صراحة أن الحق في حرية التعبير٬ المنصوص عليه في المادة (13) من الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان يضمن الحصول على المعلومات وفى نطاق وضعها لهذا الحق وطبيعته وذكرت المحكمة: ” فيما يتعلق بوقائع القضية الحالية ترى المحكمة أن المادة 13 من الاتفاقية٬ التي تكفل صراحة حقي “استقاء” وتلقي” المعلومات”،
تحمي حق كل شخص في طلب الحصول على المعلومات الواقعة تحت سيطرة الدولة٬ مع الأخذ بالاستثناءات المعترف بها في ظل نظام من القيود المفروضة في الاتفاقية، وبالتالي فإن المادة المذكورة تشمل حق الأفراد في الحصول على المعلومات المعنية والتزام الدولة الإيجابي بتوفيرها٬ بطريقة تمكن الشخص من الوصول من أجل معرفة المعلومات أو الحصول على إجابة تستند إلى حجج سليمة حينما يجوز للدولة الحد من الوصول إليها في حالة معينة لسبب معترف به في الاتفاقية، وينبغي توفير هذه المعلومات من دون الحاجة إلى إثبات مصلحة مباشرة أو صلة شخصية من أجل الحصول عليها٬ إلا في الحالات التي يُطبق فيها التقييد المشروع”
في حين نجد أن المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان كانت أكثر تحفظَا من المحكمة الأمريكية لحقوق الإنسان عندما فست المادة (10) من الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان بأنها لا تحتوى صراحة على حق الحصول على المعلومة ففي قضية ليندر ضد السويد وجاسكين ضد المملكة المتحدة، جوير وآخرين ضد إيطاليا فقضت بأنه:” لا يوجد التزام إيجابي على الدولة في جمع المعلومات وبثها إلى الجمهور، وبالتالي لا ترى المحكمة أن هناك انتهاك وقع ضد المدعيين في حرمانهم من حق الحصول على المعلومة”؛ إلا أن المحكمة لم تغلق الباب أن رأيها هذا يمكن أن يتغير في قضايا آخري مستقبلًا باستخدامها عبارة في ظروف القضية الحالية” In Curcumstances of The Present Case” ؛ إلا أن المحكمة الأوربية تبنت وجهة نظر جديدة في قضية خاصة بالحق في الحصول على المعلومات الصحية وهى القضية المسماه: Open Door Counseliny,Dublin well women Center and Other v.Ireland عندما طعن أصحاب القضية ضد قرار المحكمة الايرلندية بتأكيد قرار الحكومة برفضها تزويدهم بمعلومات عن أين يتم السماح بالإجهاض القانوني خارج إيرلندا، فوازنت المحكمة الأوربية في هذه القضية بين طلب المعلومات ومصلحة الدولة في حماية الشعور الديني، وحق الجنين في الحياة وقضت بإلغاء قرار المحكمة الايرلندية لأن المنع جاء مطلقا دون استثناءات كضرورة المعرفة المسبقة عن سن التي ترغب في الإجهاض، والسبب الدافع لها للإجهاض، وهكذا من المعلومات الضرورية والتي تختلف من حالة إلى أخرى.
كما قررت المحكمة العليا في الهند عام 1982 ذات الاتجاه في حكمها بأن: ” الوصول إلي المعلومة الحكومية هو جزء جوهري من الحق الأساسي لحرية التعبير وإبداء الرأي وأن الحكومة المفتوحة هي بمثابة انبثاق من الحق في المعرفة والذي يبدو مفهوماً ضمنياً من حق حرية التعبير والرأي، وبالتالي فإن الكشف عن المعلومات المتعلقة بأداء الحكومة يجب أن يسود وأن التكتم هو الاستثناء لا مبرر له إلا عندما تستدعي اقصي متطلبات المصلحة العامة ذلك ، ويجب أن تكون منهجية المحكمة تقليل مجال السرية بقدر الإمكان بما يتوافق ومتطلبات المصلحة العامة مع الأخذ في الاعتبار دائماً أن الكشف يخدم جانباً هاماً من المصلحة العامة”
التنظيم القانوني للشفافية الإدارية في التشريع المصري: غرس الاحتلال البريطاني البيروقراطية في ضمير الإدارة المصرية منذ زمن طويل، والتي من مقتضاها أن تدعيم سلطة الإدارة واستقلالها لن يتأتى إلا من خلال السير في دائرة السرية، التي تمثل للجهاز الإداري نوعا من الحماية؛ وهو ما ظهر انعكاسه في العلاقة الموجودة بين الإدارة والمواطنين في حق زمنية مختلفة، فالإدارة سلطتها قائمة علي الإجبار، والمواطنين في نظرها ليس لهم سوى الامتثال لأوامرها ونواهيها، كما أن ملفات الإدارة ووثائقها تمتلكها الإدارة ملكية الخاصة فلا يجوز لأحد من المواطنين المساس بها أو الاقتراب منها ، فدرجت الإدارة فيها تحت ستار حسن الفاعلية وعدم إعاقة نشاطها وتحقيق استقلالها بإحاطة أعمالها بسياج من السرية التامة، فظلت ترفض إبلاغ أو إطلاع أي شخص علي ما تحت يدها من وثائق ومستندات وملفات، بل وما سجلته من بيانات ذات طبيعة شخصية وكذا الإفصاح عن الاعتبارات الواقعية والقانونية التي دفعتها إلي إصدار القرار كما لو كانت مثل الأفراد لها حياتها الخاصة، وعلى ذلك فهي تري أن على المواطنين أن يتلقوا فقط المعلومات التي ترى هي أنهم بحاجة إليها أو أنهم يستحقونها أو يمكن أن تحقق لهم منفعة أو تدفع ضررا، وبعبارة أخرى اعتبرت الدولة نفسها “الولي والوصي على المواطنين”
فهناك ترسانة ضخمة من القوانين والقرارات المصرية التي تقيد تدفق المعلومات وتصادر حق المواطنين في الحصول عليها، ومن هذه القوانين القانون رقم 96 لسنة 1996 بشأن تنظيم الصحافة، وقانون المطبوعات والنشر رقم 20 لسنة 1936، وقانون العقوبات رقم 57 لسنة 1937 وتعديلاته، والقانون رقم 121 لسنة 1975 الخاص بحظر استعمال أو نشر الوثائق الرسمية، والقانون رقم 35 لسنة 1960 بشأن الإحصاء والتعداد، والقانون رقم 313 لسنة 1956 المعدل بالقانون 14 لسنة 1967 بحظر نشر إيه أخبار عن القوات المسلحة، وقانون المخابرات العامة رقم 100 لسنة 1971، وقرار رئيس الجمهورية رقم 472 لسنة 1979 بشأن نظام المحافظة على الوثائق الرسمية للدولة وأسلوب نشرها واستعمالها، والقرار الجمهوري رقم 1915 لسنة 1964 بإنشـاء الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، وقانون الخدمة المدنية 81 لسنة 2016. هذه القوانين والقرارات منحت العديد من الجهات الحكومية الحق في التنصل من حق المواطن في الحصول على المعلومة، بمنحها العديد من الاستثناءات المطاطة التي يمكنها من خلالها أن تتنصل من هذا الحق، بل وحظرت هذا الحق مطلقًا بالنسبة لجهات حكومية معينة؛ وهو ما لا يتوافق مع مكانة مصر باعتبارها من أوائل الدول العربية والدول النامية السابقة في مجال وضع التشريعات والقواعد المتصلة بالمراقبة والمحاسبة والمساءلة والعقاب، فهي من أوائل الدول التي وافقت ثم صادقت على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عام 2004، واتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد عام 2005، وأصبحت عضوا مؤسسا لمجموعة العمل المعنية بالإجراءات المالية للشرق الأوسط وأفريقيا التي أنشئت في عام 2004
وقد ظهر توجه مصر نحو الشفافية الإدارية وحرية تداول المعلومات جليا في الدستور المصري الحالي الصادر في عام 2014 الذي ورد به نص صريح عن الشفافية الإدارية وهو نص المادة(68) منه الذي جري نصها على أن:” المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية ملك للشعب، والإفصاح عنها من مصادرها المختلفة، حق تكفله الدولة لكل مواطن، وتلتزم الدولة بتوفيرها وإتاحتها للمواطنين بشفافية، وينظم القانون ضوابط الحصول عليها وإتاحتها وسريتها، وقواعد إيداعها وحفظها، والتظلم من رفض إعطائها، كما يحدد عقوبة حجب المعلومات أو إعطاء معلومات مغلوطة عمدًا. وتلتزم مؤسسات الدولة بإيداع الوثائق الرسمية بعد الانتهاء من فترة العمل بها بدار الوثائق القومية، وحمايتها وتأمينها من الضياع أو التلف، وترميمها ورقمتنها، بجميع الوسائل والأدوات الحديثة، وفقًا للقانون”( )، هذا النص الدستوري الذي جاء استجابة ومواكبة للتغيرات العالمية في مجال حرية تداول المعلومات والشفافية الإدارية كآلية من آليات مكافحة الفساد.
التنظيم القانوني للشفافية الإدارية في القضاء المصري: جاء تطبيقًا لأحكام القضاء الدستوري المصري التي رسخت بأحكام بليغة لهذا الحق وهذه الحرية باعتبارها من الحريات المرتبطة بحرية الرأي والتعبير؛ فمنذ أكثر من عقدين من الزمان قضت المحكمة الدستورية المصرية في أحد أحكامها بأن :”الدستور لا يرمي من وراء ضمان حرية التعبير، أن تكون مدخلًا إلى توافق عام، بل بصونها أن يكون كافلًا لتعدد الآراء Plurality of opinions وإرسائها على قاعدة من حيدة المعلومات neutrality of information ، ليكون ضوء الحقيقة منارًا لكل عمل، ومحددا لكل اتجاه – ذلك أن حرية التعبير التي تؤمنها المادة (47) من الدستور، أبلغ ما تكون أثرًا في مجال اتصالها بالشئون العامة”( )، في طعن أخر قدم لها علي نصوص قانون الجمارك تحدثت فيه عن ضرورة الالتزام بإقرار مبدأ الشفافية عند وضع القانون: “وكان النص الطعين قد خوّل مصلحة الجمارك الحق في مطالبة صاحب البضاعة بالمستندات المتعلقة بالسلع المستوردة، دون أن يلزمها بالتقيد بالبيانات التي تضمنتها هذه المستندات، أو يلزمها بالإفصاح عن مبرراتها في الالتفات عنها، أو الوسائل التي اتبعتها في التوصل إلى القيمة الحقيقية للبضائع المستوردة، بما يجعل اطراحها هذه المستندات قرارًا صريحًا إن أفصحت عن ذلك استقلالًا، أو ضمنيًا بقرارها بتقدير قيمة البضائع المبنى على هذا الاطراح، وهى نتيجة تناقض ما تقتضيه ضرورة الالتزام بالشفافية في التعرف على أسس تقدير وعاء الضريبة، ومن ثم مقدارها، للتحقق من توافر الشروط الموضوعية التي تنأى بالضريبة عن التمييز، وتكفل ضمانة الخضوع لشرط الحماية القانونية المتكافئة التي كفلها الدستور للمواطنين جميعًا
، وفي إطار تصدى القضاء الدستوري لتوضيح أهمية الشفافية الإدارية فقد تناولها في إطار تناول دور منظمات المجتمع المدني وأهميتها في ترسيخ كل المفاهيم التي تحقق الشفافية الإدارية ومكافحة الفساد الإداري عندما قضت بأن:” إن منظمات المجتمع المدني، هي واسطة العقد بين الفرد والدولة، إذ هي الأمينة بالارتقاء بشخصية الفرد بحسبانه القاعدة الأساسية في بناء المجتمع، عن طريق بث الوعى ونشر المعرفة والثقافة العامة، ومن ثم، تربية المواطنين على ثقافة الديمقراطية والتوافق في إطار من حوار حر بناء، وتعبئة الجهود الفردية والجماعية لإحداث مزيد من التنمية الاجتماعية والاقتصادية معًا، والعمل بكل الوسائل المشروعة على ضمان الشفافية،
كما رسخ القضاء الإداري المصري للشفافية الإدارية في مصر في بعض أحكامه فقضي بأن :” وإذ عدل وزير الاقتصاد بقراره المطعون فيه موعد إعداد هذه المستندات والتقارير فأوجب أن يتم ذلك خلال شهرين على الأكثر من انتهاء السنة المالية للشركة وهو ما يتفق مع نصوص القانون ومع الموعد المضروب في هذه النصوص دون تجاوز ولما كان تحديد هذا الميعاد من الملائمات المتروكة لجهة الإدارة ممثلة في وزير الاقتصاد مادام يهدف إلى المصلحة العامة الذى أفصحت عنه الأوراق بأن ذلك تم لمواكبة التطور في التعامل في سوق المال وخاصة فيما يتعلق بتوافر عنصر الشفافية اللازم لإجراء المعاملات في بورصة الأوراق المالية حيث أصبح توافر المعلومات عن الشركات التي تطرح أوراقها للتداول في الوقت المناسب أمرًا حتميًا ولازمًا لجمهور المتعاملين حتى يكونوا على بينة كاملة بأوضاع الشركة التي يتم التعامل على أوراقها فضلًا عن أن الواقع العملي لسوق رأس المال أثبت أن الوقت عنصر أساسي لسوق رأس المال وأداة هامة من أدوات هذه السوق وأنه كان من الضروري النظر في تعديل المدة المشار إليها تمكينًا لمراقبي الحسابات من أداء مهمتهم في وقت مناسب ومن ثم يكون القرار المطعون فيه متفقا وصحيح حكم القانون
وفي حكم أخر لها تتحدث فيه عن الشفافية في مجال مزادات بيع أراضي الدولة باعتبار أن الشفافية هنا تعد من أفضل وسائل مكافحة الفساد في مجال من المجالات التي يرتع فيها الفساد ويلعب فقضت بأن” أما في الحالات الأخرى فقد جري الإعلان داخل مصر وخارجها، بل جرت حملة إعلانية ضخمة للإخبار عن مزادات بيع تلك الأراضي ومواعيدها، حيث وصل الإعلان عن ذلك إلي ذروته وغايته، وذلك قصدًا إلي تحقيق أقصي درجات الشفافية والعلانية وتكافؤ الفرص، فبدأ الأمر مبسوطًا جوانبه معلومة شرائطه للجميع فتتنافس فيه المتنافسون – مصريين وعربًا – وحصلت الدولة من ذلك علي أفضل الأسعار وفق أيسر وأنسب الشروط، كما بدأ البون شاسعًا بين مقابل البيع في الحالة الأولي، وسعر البيع في الحالات اللاحقة رغم أن البيع اشتمل في بعض الأحيان علي أراضي في ذات منطقة القاهرة الجديدة الكائن بها موقع مشروع “مدينتي”، وأن هذه البيوع تمت بفاصل زمني في بعضها لا يزيد علي بضعه أشهر”
، وهو ما أكدت عليه فتوى الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع بمجلس الدولة المصري حينما انتهت إلي أن:” تحقيق مبدأي الشفافية والعلانية في العلاقة بين كافة المتقدمين للتعاقد مع الجهات الإدارية وتحقيق مبدأ المساواة بينهم على النحو الذى لا يتمتع معه أي منهم بميزات أفضلية لا تستند إلى أسس موضوعية وفقًا للشروط والمواصفات المقررة للتعاقد وإزاء ذلك استن المشرع أصلًا عامًا لترسيه المناقصات بالفقرة الأولى من المادة ( 16 ) من قانون تنظيم المناقصات والمزايدات المشار إليه مناطه الترسية على صاحب العطاء الأفضل شروطًا والأقل سعرًا وذلك في ظل توحيد أسس المقارنة بين جميع العطاءات من النواحي الفنية والمالية.