خلال السنوات الأخيرة تزايد الحضور الصوفى فى المشهد العام، وأصبح هناك اهتمام ملحوظ بنشر ندوات مشايخ الطرق الصوفية ومواكبهم، إلى جانب الحضرة والندوة وحلقات الذكر الراقص، وصارت الأناشيد والأغانى المنسوبة إلى الصوفية تذاع بلا تمحيص عبر القنوات التليفزيونية والفضاء الأليكترونى، بل أنشئت قنوات فضائية لا تذيع غير المسلسلات الأجنبية والأغانى الصوفية .
وهناك تصور متداول بأن التوسع فى نشر التوجهات الصوفية وسيلة لامتصاص ـ أو احتواء ـ الحالة الدينية المتأججة، وهو تصور لم يقم عليه دليل، ولم تثبت صحته حتى الآن، لكن الصوفية ـ على كل حال ـ برزت حاليا كإحدى تجليات ظاهرة التدين التى تميز المرحلة الحالية، ولا مشكلة فى ذلك، فلكل مرحلة معطياتها وخصائصها وتجلياتها، وإنما المشكلة فى المبالغات التى تسقط فيها الصوفية، من حيث الممارسات والخطاب العام الذى يعبر عنها، فيكثر فيها اللغو واللغط، ويختلط فيها الحابل بالنابل، والغث بالسمين، ويطغى الخطأ على الصواب، ويغطى السيىء الحسن، وتنقلب الصوفية الحقة إلى خرافات وخزعبلات وجهالات، وتكثر فيها المطاعن، ويزداد أعداؤها ورافضوها، مثلما حدث ويحدث مع التوجهات والتيارات الأخرى، وأبرزها التيار السلفى المناوئ التقليدى للصوفية .
وفى الاحتفالات الأخيرة بالمولد النبوى الشريف بلغت الصوفية ذروة ظهورها وهيمنتها، وانتشرت مقاطع مصورة ” فيديوهات ” لفرقة صوفية فى أحد المساجد تشدو بأغنياتها مصحوبة بالطبل والرقص والاهتزاز والتصفيق، فى مشهد غير مسبوق، لم نره من قبل فى مساجدنا العامرة .
وإلى جانب هذا الضجيج الذى لا يتفق مع ما للمسجد من وقار وإجلال وتعظيم فإن مضمون الأغانى التى ينشدها منشدو الصوفية فيها أقوال تخالف ما استقر عليه الضمير المسلم الطبيعى، الذى درجنا على تسميته ” الوسطى المعتدل “.
بعض هذه الأغانى تخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه ” زادى ” و” سندى “، وتطلب منه المدد والعون، وتنسب إليه الكثير من الأفعال والمشيئات الإلهية، ناهيك عن التمادى فى ذكر الأوصاف الحسية لجمال وجه النبى وخده وعينه وكفه الناعمة، وهذه مفردات ذات دلالات ملتبسة مشوشة، توغل فى المجاز وتستدعى التأويل، وفى المجاز والتأويل ما فيهما من شطط وجنوح وتخبط، مما يأخذ الناس بعيدا عن صفاء الدين ووضوح العقيدة وصرامة التوحيد، ويصيب الأمة بأمراض التفكك والوهن والكسل .
التصوف الرشيد مطلوب اليوم وكل يوم، إذا كان بمعنى الزهد فى عرض الدنيا الزائل، وتحرير النفوس من الطمع والجشع والتكالب على المال، وربط الإيمان بالعمل الصاالح وحب الله ورسوله، وقد قدم هذا التصوف للأمة علماء وفقهاء ومجاهدين وطنيين، تصدوا للغزاة وللحملات الصليبية فى أوج اندفاعها، أما التصوف الخرافى المتخلف الذى يجرى عرضه وتسويقه فيستهدف دغدغة المشاعر الدينية، وتعطيل العقل، والانسحاب من الحياة، واختزال الدين فى خزعبلات غيبية ومظاهر شكلية .
وهذا النوع الأخير من التصوف يحظى ـ للأسف ـ بمباركة وتمجيد جماعات الحداثة والتنوير، وأيضا بمباركة من القوى التى تعتبره المعادل الموضوعى للتطرف والإرهاب، على نحو ما جاء فى تقرير مؤسسة ” راند ” المقدم لوزارة الدفاع الأمريكية ” البنتاجون ” عام 2004، الذى أوصى بتشجيع التصوف الفلكلورى المغشوش، وقد كان للسفير الأمريكى الأسبق فى القاهرة فرانسيس ريتشاردونى زيارات معلنة لموالد الأولياء ودعم صريح للطرق الصوفية، وعلاقات مباشرة مع شيوخها .
لكن الغريب حقا أن أدعياء الحداثة والتنوير يتماهون مع هذا التصوف الخرافى، بل يشجعونه، ليجعلوا منه دينا موازيا للدين الإسلامى يرضون عنه ويرضى عنه الغرب، هؤلاء يهاجمون ثوابت الدين ويطعنون فى السنة المطهرة وينالون من أكابر الصحابة الكرام ومن العلماء وقادة الفتوحات الخالدين، لكنهم لا يقربون هذا النوع من التصوف الذى يحارب العقل وينشر الجهل والخرافة، ولا يوجهون إليه سهام النقد، ويتجرأ بعضهم فيجعل منه نموذجا للإصلاح الدينى الذى يريدونه، لأنه ـ حسب زعمهم ـ يختصر الدين فى علاقة خاصة بين العبد وربه، علاقة خاصة ليس لها هيمنة على العلاقات والسلوكيات العامة الأخرى التى تسير بها حياة الإنسان .
القضية بانسبة لهم ليست انتصار الصوفية، وإنما انتصار تصورهم بأن الصوفية الخرافية التى يتحمسون لها يمكن أن تشكل تيارا متساهلا تجاه الشريعة والعبادات والأحكام الشرعية، باعتبار أن التصوف عندهم محصور فى لزوم الأضرحة والتوسل بالأولياء وحلقات الذكر الراقص والتفرغ للوجد والهيام، (فيلم صاحب المقام لإبراهيم عيسى نموذجا )، بينما التصوف الحق عودة إلى الأصول الرائقة للدين، فلا يكون الصوفى صوفيا حتى يكون الأكثر التزاما بما فى كتاب الله من عقيدة وشريعة وعبادات ومعاملات وأخلاق، ثم يتدرج فى معارج المعرفة حتى يبلغ القمة منها بالتقى والورع، وحينئذ يلزم نفسه فوق ما يلزم العامة .
وفى ظل دعوات الإصلاح الدينى وتجديد الفكر الدينى وتطوير الخطاب الدعوى يقتضى منا الواجب الدينى والوطنى أن نتنادى أيضا إلى ترشيد الصوفية، والنأي بها عن الخرافات والممارسات السلبية التى تعطل العقل الإسلامى وتنشر الخرافة والجهل، فالتصوف الحق لا يعنى الطبل والرقص فى بيوت الله المخصصة للركع السجود، ولا يعنى الانفلات من الشريعة أو التهاون فى أداء الفرائض كما يفعل بعض المدعين .
الأصل أن التصوف طريق يبدأ من حيث تنتهى الشريعة، وبغير الشريعة والحقيقة يكون الإنسان قد تزندق، وهذه نقطة مهمة توقف عندها العارفون فقالوا : ” من لا شريعة له لا تصوف له “، والزهد الصوفى يعنى التعالى على مفاتن الدنيا وإغراءاتها وإخلاص الوجه لله، ولا يعنى أبدا الانسحاب من الحياة وتغييب العقل والإغراق فى الباطن والجوانيات واللهو على غير هدى والإعراض عن قضايا الأمة ومصالح البلاد والعباد .