نقلة حضارية كبيرة يشهدها عالم الفتوى في الآونة الأخيرة باقتحامها المجال الحيوي لعملية التنمية دعما وتوجيها وتهذيبا من ناحية وضربا بيد من حديد على الفساد والمفسدين من قبل ومن بعد .. ويحسب للأزهر الشريف ودار الإفتاء تبني هذا التوجه الصريح في بيان العلاقة العضوية والحيوية بين العلوم الشرعية عموما وخطط التنمية الإنسانية الشاملة والمستدامة بلغة وتعبير أهل الاقتصاد المعاصر..وهي نظرة أكد عليها الاسلام دائما في القديم والحديث بضرورة تكامل وتعاضد الروحي والمعنوي والجوانب المادية الأخرى في طرق ووسائل تحقيق النهضة وفي سلم الارتقاء الحضاري المنشود.
ولعل هذا ما يساعد في أن يزيل الدهشة التى قد تعتري بعض الافهام حين ترى تجاور واقتران مفهوم ومصطلح الفتوي مع التنمية الشاملة أو المستدامة ويسأل ولو من طرف خفي وما علاقة هذا بذاك وهو يتغافل عن حقيقة الرؤية وشمولية المقاصد الشرعية في تحقيق مصالح البلاد والعباد..
النقطة الجديرة بالاعتبار في هذا الصدد ولها واجهتها وهي أن المؤسسة الدينية الأزهر والافتاء قد قفزت بالفتوى قفزة محورية بالغة الأهمية في توقيت شديد الحساسية حيث الاسلام هو الهدف
والمسلم صحيح الإيمان والعقيدة هو الصيد الثمين المقصود من جانب قوى عديدة في الداخل والخارج لا تريد الاسلام خيرا وتفعل افاعيلها ولم تنفك تجدل خديعة وراء خديعة ولم تلهها كل الحيل للنيل من دين الله بأي وسيلة.
القفزة والتوجه الجديد والذي انعكس في العديد من المؤتمرات الدولية الحاشدة بعناوين لافتة تتصدرها مصطلحات التنمية الشاملة والمستدامة بشكل صريح له أهميته في تعديل مسارات انحرفت بالفتوى ايما انحراف وارتكزت عليها في خططها الجهنمية العبثية الجبارة لاختراق الجبهات الإسلامية ومحاصرة استراتيجيات العمل الإسلامي الجاد أيا كان نوعه وصرفها وابعادها عن أهدافها الحقيقية..هذه المسارات نجحت في إدارة صراعاتها مع مختلف الأطراف بالفتاوى ورأيناها في مستويات عدة: مستوى المواجهة مع التنظيمات المتشاحنة والمتصارعة حتى وهي تحت راية واحدة .. وفي مستوى المواجهة مع الأنظمة والحكومات الوطنية..أو مستوى القوى الدولية والإقليمية التى لعبت وتلاعبت بالكثير من التنظيمات وجعلتها ادوات هدم ومخالب نهش ونبش وعدوان على الدين نفسه.
وكم عانت الدول الإسلامية أشد المعاناة ودفع الاسلام كدين وعقيدة ثمنا كبيرا وباهظا من جراء حملات الفتاوى الضالة والمضللة.. وكم خدعت جماهير من الشباب وغير الشباب حتى من الدعاة أنفسهم بكثير من المعارك والصراعات التى كانت تدار بحرفية عالية بالفتاوى والتي كانت أصدق مثال على القول الشهير “حق يراد به باطل”..
وكم من فتاوى صدرت أو صنعت خصيصاً لإثارة الفتن المذهبية وغير المذهبية وكم من مشايخ ودعاة جدد كما يسمونهم تم أعدادهم بعناية ورعاية مهمتهم اللعب بالفتوى وإثارة القلاقل والصراعات والخلافات بين الجماعات والطوائف تحت راية فتاوى ملعوب في أسسها وأدلتها واسانيدها لتمتلئ بالسم السعاف لإثارة الحيرة والارتباك والتشكيك في أي شيء حتى ما استقرت عليه الاعراف السوية السليمة المنسجمة مع جمال الفطرة الإنسانية.
لابد أن نعترف أن إدارة الصراع بالفتاوى لم تكن مسألة عفو الخاطر وانما هي قضية مدروسة بعناية وانشئت من أجلها مراكز بحوث ومعاهد دراسية متخصصة ليس لها من وظيفة الا اللعب في الأصول والتشكيك في الثوابت وما يسمونه تحطيم التابوهات وكل شيء مقدس أو له ارتباط بالقداسة اوالرغبة في الحفاظ على القيم والأخلاق.
صناعة لاتقل في الأهمية والشكل عن أي صناعة ثقيلة ويتم تجنيد الادوات والوسائل المؤهلة لتنفيذ الخطط بدقة متناهية مع اتباع سياسة النفس الطويل وبعيد المدىمتعدد الاغراض..
اللعب على محور الفتوى كان مقصودا وبكل قوة ولم يتوقف الأمر على فتاوى مجهولة المصدر ومجهلة يتم تصديرها واشاعتها على نطاق واسع بل على خلق شخصيات مجهولة تحمل لقب مفتي ناهيك عن النكرات التى تستضيفها الفضائيات هنا وهناك وتلقي بأحجار وسموم للفتنة..فإن هناك مثالا صارخا على ذلك وهو شخص يدعي الشيخ مصطفى مفتى استراليا وتستضيفه البرامج إياها من على شاكلة ابو حمالات وإخوانه وتخصص في إصدار فتاوى غريبة وعجيبة بل أنه أنكر حتى وجود صحيح البخاري وهو لم يستطع أن يقرأ اسم الامام البخاري على الكتاب في واحدة من حلقات الهدم التلفزيونية اياها..وبالبحث والتحري لم يعثر أحد على أحد بالاسم سواء في استراليا وغيرها.وقد وقف رئيس المجلس الاسلامي وممثل الجالية الإسلاميةباستراليا في المؤتمر الاخير للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة وأمام وفود من ٨٠ دولة وقال إنه لا يوجد في استراليا هذا الشخص كما أنه لا يوجد منصب للمفتي اصلا..وناشد الجميع أن يمتنعوا عن التعامل مع مثل هذه الشخصيات التي تنتحل وظائف دينية وتشوه الدين نفسه وتسيء إلى المسلمين ليس فقط في استراليا ولكن في العالم أجمع..
يكفي أن نعلم أن العناصر التى تصدع رؤوس العباد ليل نهار على الفضائيات العربية والأمريكية هم صناعة وتمويل إدارات خاصة سواء في البنتاجون أو الخارجية الأمريكية او أجهزة غربية اخرى وما يتبعها من محطات إذاعية وقنوات تلفزيونية..لتنفيذ مخططات وتسهيل فرض أجندات واحداث حالات من الفوضى اللامحدودة من أجل الارتباك ثم السقوط المدوي.
اخراج الفتوى من دائرة تأجيج الصراعات اصبح ضرورة شرعية ووطنية ولو كره الكارهون..ومن هنا تأتي أهمية مؤتمر الإفتاء الاخير عن التنمية المستدامة وعرض فيه فضيلة المفتي د.شوقي علام لرؤية متكاملة لكيفية الوعي والإدراك بقيمة الفتوى ومساندة ودعم التنمية والخطط الوطنية لتحقيق النهضة الحقيقية وتطوير المجتمعات ..
مشددا على دو المؤسسات الدينية في أن تقوم بواجب الوقت بكل شجاعة وتقف ضد المشروع الذي يدمر الإنسان ويدمر التنمية ويسلك بالإنسان سبيلًا غير الذي خلقه الله تعالى وأوجده من أجله ألا وهو ذكر الله تعالى وعبادته وتزكية النفس وعمارة الأرض وبنائها من أجل تنمية الإنسان في كل زمان وفي كل مكان
كلمات وكيل الأزهر د. عبد الرحمن الضوئي لم تكن بعيدة عن الخط فأكد على أهمية ما أسماه بالفتاوى الحضارية مشددا أنها لا تدعم التنمية فقط بل تصنع التنمية المستدامة ..وفي المقابلِ فإنَّ هناك فتاوى ضالَّةً مضلَّةً تعملُ على تقويضِ البناءِ وتعطيلِ العملِ وتأخيرِ الرَّكبِ وتؤصِّلُ لقطيعةِ فكريَّةٍ غاشمةٍ وعُزلةٍ حضاريَّةٍ ظالمةٍ تضرُّ المجتمعاتِ ولاتنفعها ..
سبق هذا مؤتمر لا يقل أهمية عقده المركز العالمي للفتوى بالأزهر في مارس الماضي تحت عنوان الملتقى الفقهي الاول ..الفتوى الإلكترونية ودورها في التنمية المستدامة.
وأيضا اصدار كتب خاصة تؤصل للعلاقة بين الفتاوى والتنمية الشاملة والمستدامة ومنها الموسوعة التي أصدرتها دار الإفتاء بعنوان: دور الفتوى في تحقيق التنمية المستدامة..الموسوعة التي صدرت في مجلدين اعتبرها الخبراء والباحثون نقطة انطلاق مهمة في طريق طويل لدعم التنمية الشاملة والارتقاء بالبناء الحضاري للامة.
والله المستعان ..
Megahedkh@hotmail.com