كنت مساء أمس الأول ـ الأحد ـ فى صلاة العشاء بالمسجد مع عدد قليل من المصلين، لا يكاد يكمل الصفين الأوليين، وفجأة اقتحمتنا صيحة هائلة من المقاهى المنتشرة حولنا، صيحة أعرفها جيدا لمشجعى الكرة حين يلعب الأهلى والزمالك، لكن لم يكن هناك أهلى ولا زمالك، وإنما المباراة النهائية فى ختام مونديال قطر 2022، وعندما استجليت الأمر قيل لى إن الجمهور المصرى كان يصيح تشجيعا للأرجنتين فى مواجهة فرنسا، انتقاما من تاريخها الاستعمارى الأسود، ونكاية فى رئيسها ماكرون العنصرى المتطرف ضد الإسلام والعروبة.
هذا هو الحس الشعبي الصادق الذى ينتظر لحظة كهذه ليعبر عن نفسه بتلقائية، بعيدا عن القنوات الدلوماسية، وهنا يسقط الخط الفاصل بين الرياضة والسياسة والدين، هذه أمور ليس بيد أحد أن يقيم حوائط بينها، حتى لو أراد وتشدد.
ومعروف لدى الكافة أن الرئيس الفرنسى مانويل ماكرون نجح بشكل مطرد فى تصعيد الروح العنصرية فى فرنسا ضد كل ماهو مسلم و عربى، بعد أن كادت تتخلص بلاده من هذه الروح البغيضة تحت قيادة رؤساء سابقين مثل شارل ديجول وفرانسوا ميتران وجاك شيراك، ولكنه آثر أن يسير فى طريق العنصرية المظلم، الذى بدأ مع الرئيس الأسبق نيكولاى ساركوزى.
كان ماكرون حاضرا فى مدرجات المشجعين، لكن الجمهور تعامل معه كما لو كان هو قائد الفريق الفرنسى فى أرض الملعب، تعاطفوا مع منافسه وفرحوا لخسارته، لأنهم لم ينسوا له تصريحاته المتكررة التى يربط فيها بين الإسلام والإرهاب، ولم ينسوا له موقفه المخزى من الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، وتشجيعه لكل من ينشرها، واعتبارها نوعا من حرية التعبير، رغم حكم المحكمة الأروبية التى أكدت أن تداول هذه الرسوم البذيئة ليس من حرية التعبير.
ولم ينس جمهور المشجعين لماكرون قرارته ضد الحجاب والمحجبات، والدور التحريضى الذى لعبه من وراء الستار لدى محكمة العدل الأوروبية حتى أصدرت حكمها فى أكتوبر الماضى بمنع المسلمات من ارتداء الحجاب بمقرات العمل الحكومى والخاص فى جميع دول الاتحاد الأوروبى، باعتبار الحجاب رمزا دينيا، وهو ما يعنى حرمان المحجبات، الفرنسيات والمهاجرات، من الالتحاق بأى عمل فى دول الاتحاد إلا إذا خلعن الحجاب.
كما لم ينسوا له إجراءاته المتتالية للتضييق على المساجد ومدارس المسلمين وجمعياتهم بدعوى الحفاظ على قيم الجمهورية الفرنسية، ناهيك عن إعلان انزعاجه مؤخرا من تزايد إقبال الجزائريين على اللغة العربية، وتخصيص ميزانية للحفاظ على فرنسة الثقافة الجزائرية، ورفضه القاطع لاقتراح من الأفارقة بمناقشة وجود القوات الفرنسية فى بلادهم واستغلالها لثرواتهم بلا ضوابط، وفى المقابل كان هؤلاء المشجعون ينظرون إلى الأرجنتين على أنها بلد مثلنا، عانى ماعانيناه من الاستعمار والاستعلاء الأوروبى الأمريكى.
لقد صار ماكرون فى الوجدان العربى الإسلامى تجسيدا للعنصرية الفرنسية، التى هى تجسيد للعنصرية الأوروبية، وفى سنوات حكمه أطلق العنان لليمين المتطرف حتى بلغ مداه، وظهرت تيارات تنافسه وتزايد عليه فى العداء للإسلام والمسلمين، والانحياز لإسرائيل، وفى الانتخابات الفرنسية الرئاسية الأخيرة أطلق المرشح اليمينى المتطرف إريك زمور، الذى كان منافسا قويا لماكرون، حملة من أجل ما سماه ” استعادة مدارس فرنسا من الإسلام ومحاربة الرموز الإسلامية “، وجاءت هذه الحملة بعد أقل من أسبوع على صدور قرار محكمة العدل الأوربية المشار إليه ضد الحجاب، فبدا الأمر كما لو كانت فرنسا فى معركة مصيرية ضد الإسلام والمسلمين، معركة أشعلها ونفخ فيها مانويل ماكرون.
يقول المفكر المغربى الصديق د. إدريس الكنبورى ” إن الحزب المتطرف الذى أسسه إريك زمور ليخوض به المنافسة الاىنتخابية أخذ اسمه من العبارات التى يرددها ماكرون، فقد سماه ” حزب الاسترداد “، أى كما يقول ماكرون ” استرداد فرنسا من الإسلام “، بدعوى أن المسلمين غزوا فرنسا ويريد تحريرها، وهذا الاسم يحمل مغزى تاريخيا يذكرنا بسياسة ” الاسترداد ” الأسبانية التى أعلنتها الكنيسة الكاثوليكية فى القرن الخامس عشر لطرد المسلمين واليهود من أسبانيا، وبعد خمسة قرون يعيد هذا اليمينى المتطرف إحياء نفس السياسة، لكن هذه المرة فى فرنسا، وضد المسلمين وحدهم.”
لقد صار أغلب السياسيين فى فرنسا يفكرون مثل إريك زمور تجاه الإسلام، الفرق الوحيد بينه وبينهم أنه الأكثر وقاحة منهم، وأنه يعلن حقده على الإسلام بشكل صريح، فلا فرق بينه وبين ماكرون، أو مارين لوبين، أومدرسة ساركوزى اليمينية، التى ترى أن الإسلام عدوا يتحداها فى عقر دارها، ومن ثم تبنى مواقفها على قمع الحضور الإسلامى فى مهده، مهما كان صغيرا وغير مؤثر.
ليست هناك مشكلة فى فرنسا وأوروبا الليبرالية فى القبول بالتطرف المسيحى واليمينى، فهى تعترف به وتتعامل معه، لكنها لا تتسامح مع الآخر إذا كان منتميا إلى الإسلام، وتحمله أوزار الماضى وعداواته وصراعاته الدينية والحضارية، وهذا تناقض غريب فى الليبرالية العلمانية التى رفعت شعارات التسامح والتعايش وحقوق الإنسان وحرية المعتقد، حيث يسمح القانون هناك بأحزاب متطرفة تعادى كل هذه الشعارات، ويتيح لها الوصول إلى البرلمان والرئاسة، لكن هذا القانون نفسه يمنع المسلمين من ممارسة دينهم وشعائرهم، بدعوى معاداة العلمانية والشذوذ ، فهل تقبل المسيحية بالشذوذ والتهتك والعرى ؟! وهل تقبل العلمانية بازدواجية المعايير وقهر الآخر؟!
إن ذاكرة الشعوب لا تنسى بسرعة، خصوصا فيما يتعلق بالدين والهوية، وما تحمله ذاكرة شعوبنا العربية الإسلامية تجاه فرنسا، وتجاه ماكرون شخصيا، هو ما جعلهم يفرحون لخسارة فرنسا، التى رأوا فيها هزيمة لعجرفة ماكرون واستعلائه، وهذا مؤشر مهم بالنسبة للمخلصين فى فرنسا، الراغبين فى تصحيح صورة بلادهم، بأن عليهم أن يبذوا مجهودا حقيقيا أكبر فى اتجاه التسامح والتعايش وقبول الآخر من أجل مستقبل أفضل للجميع.