القلب الآثم قلب كتم الحق في لحظة أحوج بها الناس إلى أن يقول ما يعرف ، كحاجة قوم تائهين إلى شمعة تضيء لهم طريقهم لكن الذي استأمنوه على هذه الشمعة حرمهم منها ، فازداوا تيهًا وضلالًا، فأصبح مسئولًا عن كل الأضرار التي تلحق بهم ،ومسئولًا عن كل الفساد الذي يترتب على ما فعل من أحقاد وضغائن وتربص .
ومن يتأمل قوله تعالى:” وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ” نجد أن المولى شاءت قدرته أن تكون الآية شديدة المباشرة تستخدم لا النافية مع الفعل المضارع ليفيد الأمر الفعل “تكتم ” الذي يفهم منه كأن جوارح الإنسان تتطلع للإخبار بما رأت وعلمت، لكن هناك من يقاوم ذلك فيكتم ما تريد أن يقول أي أن الكتمان فعل يتحرك على عكس فطرة الإنسان وطبيعة جوارحه التي يريحها البوح. إذن الكتمان يتكلف فيه الكاتم فوق طاقته العادية ثم يأتي بالحكم الذي يسري على كل من فعل ذلك ، ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ، فلم ينسب الإثم إلى الشخص أي لم يقل فهو آثم ، وإنما نسبه الى قلب الفاعل كأنه يريد أن يقول مثل هذا الشخص فسدت جوارحه كلها أي لم يعد صالحًا في شىء وهو ما أشار إليه رسولنا صلوات الله وسلامه عليه في قوله “..ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله إلا هي القلب ” فعاقبة القدرة على كتمان الحق هي الفساد الكامل للطبيعة السوية للفاعل ،وهو ما يناسب الأثر الحادث في المجتمع عامة من ضياع الحقوق وانعدام الثقة وكذلك الجرؤة على الآخرين من قبل أهل الجور ،واليأس من الحصول علي الحق من قبل المظلومين والضعفاء، وفي طرفي القضية محل الشهادة أضرار مادية ونفسية واجتماعية قد تضيع فيها أسر كاملة. لذا استخدم القرآن الكريم كلمة :آثم وهي صيغة للفاعل (اسم فاعل) والتي تفيد أن قلب كاتم الشهادة آثم في الماضي والحاضر والمستقبل، وأن الأثم دائم فيه حتى يتحلل من جريمته هذه ليس بالاستغفار فقط وإنما بالاعتراف بما ارتكب إعترافا يغير الآثار التي ترتبت على كتمانه الشهادة
والإثم في لسان العرب هو عمل مالا يحل للإنسان ويبين ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : .. الإثم ما حاك فى صدرك وخشيت ان يطلع عليه الناس )..وهو من الفعل أَثِمَ وهو يعني تحمل ذنبًا ويعني أيضًا الضرر والخسارة وهو ما قال به بعض المفسرين في قوله تعالى:” يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس” وأَثِم فلان أي وقع في الإثم، وفي التنزيل”وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ” أي يلقى عقوبة والأثيم صيغة مبالغة وتعني الفاجر الذي أصبح الإثم عمله الدائم، فصار طبيعة فيه يقول تعالى:” إن شجرة الزقوم طعام الأثيم “.وتَأَثَم يعني تاب عما فعل وفي حديث سيدنا معاذ بن جبل ” فأخبر به عند موته تأثمًا ” أي تجنبًا للوقوع في الإثم لأنه كتم شيئًا سمعه من رسول الله صلوات الله وسلامه عليه . ونص الحديث : “أنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، ومُعاذُ بنُ جَبَلٍ رَدِيفُهُ علَى الرَّحْلِ، قالَ: يا مُعاذُ قالَ: لَبَّيْكَ رَسولَ اللهِ وسَعْدَيْكَ، قالَ: يا مُعاذُ قالَ: لَبَّيْكَ رَسولَ اللهِ وسَعْدَيْكَ، قالَ: يا مُعاذُ قالَ: لَبَّيْكَ رَسولَ اللهِ وسَعْدَيْكَ، قالَ: ما مِن عَبْدٍ يَشْهَدُ أنَّ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسولُهُ إلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ علَى النَّارِ، قالَ: يا رَسولَ اللهِ، أفَلا أُخْبِرُ بها الناس فَيَسْتَبْشِرُوا، قالَ: إذًا يَتَّكِلُوا، فأخْبَرَ بها مُعاذُ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا”
أما الشهادة فهي قول ما رأه الإنسان وسمعة في واقعة ما طُلِب منه أن يرويها لإحقاق الحق بين طرفي نزاع ،وقد شدد رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه في هذا الأمر بحيث لا يتسرب إليه أدنى خطأ في الأداء فقال :” إذا رأيت مثل الشمس فاشهد” وعلى الجانب الآخر شدد في التحذير من الكذب في الشهادة في حديث يوجع القلوب وتقشعر له الأبدان :
فعن عبدالرحمن بن أبي بَكرة، عن أبيه، قال: “كنَّا عند رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – فقال: ((ألا أُنَبِّئُكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثًا: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور – أو قول الزور))، وكان رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – مُتَّكِئًا، فجلَس، فما زال يُكرِّرها؛ حتى قلنا: ليتَه سَكَتَ”؛
وقد جاء الحديث عن القلب الآثم في معرض العقود التي تتم بين طرفين دون كتابة واعتمادها على الثقة ووجود شهود سيشهدون الحق إذا ما دعوا” وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ۚ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ۚ وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ” .
ويفرق العلماء بين الإثم والذنب والسيئة..فالإثم خطأ القلب.. أي أنه فى باطن النفس.. وأكبر الإثم..هو الشرك بالله..ومن الآثام:الحقد، والحسد ،وكتم العلم، و كتم الشهادة، و النفاق، وسوء الظن،وغيرها من أمراض القلوب..
أما الذنب فهو خطأ الإنسان فى حق نفسه مع ربه…أى معصيته لله دون إضرار بغيره..كالتقصير فى الفروض من صلاة وزكاة وصوم وحج مع الاستطاعة، و شرب المسكرات، و النظر إلى ما حرم الله ، وأكل ما يحرم أكله، وغيرها مما يغضب الله.
أما السيئة :فهي خطأ العبد فى حق نفسه مع ربه وامتد هذا الخطأ ليضر غيره من العباد..مثل السرقة.. وأكل مال اليتيم،والغيبة، وعدم الوفاء بالعهد،والخيانة،والظلم ،والقتل، والأذى البدنى أو النفسي للغير، والكذب ،وغيرها.