(1)
دهِشتُ للمصادفاتِ العجيبة التي فاجأَتني من جميع نواحيها وأنا أستروِضُ بين جنبات القاهرة مُتحرّراً من طول المُكثِ بالبيتِ وعناء الاستغراق في الكُتب والمطالعات، مُبتعداً بنفسي عن أي خاطرٍ يلاحقني منها أو يدفعني إلى الثرثرة مع الأصدقاء، لأتهادىٰ منفرداً بين المتنزّهين الغرباء حيثما صعدوا إلىٰ أرصفة المُشاةِ أو عبروا مفارقَ الطرقِ إلىٰ “فاترينات” العُرُوضِ أو موائد “الكافيهات”، مُستأنساً بالتّعطّل الجميل من كل شيءٍ إلا من الترويح عن النفس والخروج بها إلىٰ الهواء الطلق رغم برودة الجو وتقلّبات “فبراير” الشهيرة.
حدث ذلك عصر يوم الخميس الماضي ٢ من فبراير ٢٠٢٢م.
وإِنْ هي إلا لحظاتٌ، مرّت علىٰ وجهي مرورَ النسيمِ علىٰ وجه سجينٍ عائدٍ تَوّاً إلى الحرية، استمتعتُ فيها بالنأيِ عن مشاغل الحياة وتَبِعاتِ الفِكر والوجدان، حتىٰ وجدتني مُنساباً مع تيار المُتّجهين إلى الرصيف المقابل لـ "دارالقضاء العالي"، مُحاذياً الكتب القديمة المطروحة أرضاً من أول محل عصائر الفاكهة إلىٰ مبنىٰ "نقابة المحامين"، يضجّ بها رصيفُ المشاة ويضيق بها الممشىٰ عن أقدامِ وأبدانِ المتنزّهين والمتنزّهات، فلم ألتفت إلىٰ هٰذهِ الكتبِ المنطرحةِ على الأرض، ولم أعرها اهتماماً ـ وأنا أختال مزهُوّاً مع المشّائين والمشّاءات في مداراتِ المطلق الوسيع ـ مُتجاهلاً إغراءها الطاغي، ولكني لمحته من بينها: (عالم السدود والحدود) لـ "العقاد"!
ـ كيف لمحتُهُ من بينها وأنا لم ألتفت إليها أصلاً؟
ـ لا عِلمَ لي!
ـ كيف، وهي لم تلفتْني إليها مُجتمعةً، لمحته من بينها منفرداً وهو يسنح لي بعد غياب أربعين سنةً؟
ـ لا علمَ لي.
ـ وهل فكَكتُ من أَسْرِ “العقاد” في المنزل لأقع في شَرَكِ “سدودِهِ وحدودِهِ” على الرصيف بين “دارالقضاء العالي” و”نقابة المحامين” بينما كنت أتنسّم رذاذَ الحريةِ سعياً وراء المطلق والجمال؟!
ـ لا أعرف!
"عالم السدود والحدود"، وأيامُ "العقاد" ولياليه الطوال في "سجن مصر العمومي" في الحِقبة "من ١٣أكتوبر ١٩٣٠م إلىٰ ٨ يوليو ١٩٣١م".
تسعة شهورٍ صمّاءَ عاشها "العقاد" وراء القضبان الحديدية ليخرجَ بعدها من غياهب السجنِ خروجَ الجنين من عالم الغيب إلى المُقدَّرِ له من حوافزِ المجدِ وبواعثِ الرِّفعةِ والفخار.
"عالم السدود والحدود"، الكتاب الذي صحبته ردحاً من الزمن، فآنسني وأشجَاني، ثم ضاع مِني علىٰ حين غِرّةٍ في تنقّلاتي بين القاهرة والصعيد إِبّان دراستي الجامعية، ورحتُ أبحث عنه ولم أعثر عليه.
أربعون سنةً مضت وأنا أبحث عنه فما عثرت عليه، طرقتُ دورَ النشر داراً داراً، ومنافذَ التوزيع منفذاً منفذاً ولم أهتدِ إليه، سألتُ الأصدقاءَ مكتباتِهم الخاصّة فما توصّلتُ إلىٰ خيطٍ له ولا شمَمتُ رائحةً تدلّ عليه، حتىٰ كلّت هِمّتي وهَمَدَتْ إرادتي، ويئستُ من عودته، وإن بقيَ له في النفسِ هٰذا الحنينُ الغريب، حنينُ المُحبّين الذي لا يحول، وبقيَ الأمل الواهن في العثور على الغائب الذي لا يعود!
"عالم السدود والحدود".
ولمحتُهُ في طرفة عين، بل في أقل من لمحة عينٍ لمحته بين رُكامِ الكتب وأكداسِ المجلدات، ففزعتُ إليه مأخوذاً كالطفل التائه في الميدان الكبير لاح له وجهُ أمه في الزحام، فجعل يصيحُ في طلبها مُقتحماً الأقدامَ والأبدان والوجوه، فإما أن يظفَر بها وإما فلا أملَ له بعد ذلك في الظَفَرِ بها، أو في البحث عنها من جديد!
ولقد ظفرتُ بهِ، كما ظفر الطفلُ التائهُ بأمه، ولا فرقَ بيننا غير أن ظَفَري به جاء بعد أربعين سنةً من القنوط والحنين، وظَفَرَهُ بها جاء بعد لحظاتٍ من تيَهَانِهِ في الميدان الكبير!
وهٰكذاٰ عدتُ إلىٰ أَسْرِ "العقاد"، أو هٰكذاٰ أعادني "العقاد" إلىٰ أَسْرِهِ في ذلك المكان الكائن بين الصرحَينِ الشامخَينِ: "دارِالقضاء العالي" و"نقابةِ المحامين"، فيا لَهُ من أَسْرٍ وقعتُ فيه، ويا له من مكان!
وما شرعتُ في الدخول إلىٰ "عالم السدود والحدود" حتىٰ وجدتُ العقاد جاثماً في مدخله كما تركته من أربعين سنةً في صدر كتابه يصف لنا في مقدّمته هٰذه السدود:
( . . . هو ذلك البناء المعزول في ناحيةٍ منزوية إلىٰ طرفٍ من الأطراف في بعض أحياء القاهرة الواسعة الكثيرة، كأنه يحسّ نفرةَ الناسِ منه ونفرته من الناس، واسمه في سجلات الحكومة “سجن مصر العمومي” . . . وهٰذهِ الصفحاتُ هي خلاصة ما رأيتُهُ وأحسستُهُ وفكّرت فيه يومَ كنت أنزل “عالم السدود والحدود” ص”٥”)
فإذا اجتزنا مدخل السدود والحدود، طالعَتنا أبوابُ السجن التي ترجمها العقادُ في كتابه إلىٰ ثمانية عشرَ باباً أو فصلاً، يقول في الأول منها، وهو باب السجن الكبير المُعدّ لاستقبال النزلاءِ الجُدد:
( فُتِحَت الكُوّةُ الصغيرة، ثم فُتح باب الرِّتاج الكبير، ثم احتوانا البناء المخفور الذي يُعرف في مصلحة السجون باسم “سجن مصرَ العمومي” ويُعرف علىٰ ألسنةِ الناس باسم “قره ميدان” أي الميدان الأسود باللغة التركية! ص”٧”)
وكان العقاد قد أخبر إدارةَ السجن بضرورة رعاية مواعيده في تناول الوجبات الخاصة به ـ المرتبطة بالدواء الذي يتعاطاه ـ حين تصل إليه من البيت، يقول:
(. . . هنا ظهرت قيود السجن دفعةً واحدة، فليس المستطاع أن أعرف هٰذا الخبر الصغير إلا بعد أن أسأل السّجان، وبعد أن يسأل السّجانُ الضابط، وبعد أن يسأل الضابطُ البواب، وبعد أن يُحال البوابُ إلى المأمور وأطباء المستشفىٰ ص”١٣”)
ثم يصف لنا "الزنزانة" التي أودعوه فيها قائلاً:
(. . . أظلمتِ الحجرةُ عندي ظلامَين، لأن النافذة المغلقة حجبَت كلَّ ضياءٍ يتسلل من فناء السجن المنار بنوره الضئيل، فلم أستطع أن أعرف مكان الكوب ولا سلةَ الطعام في ذلك الظلام، ولبثت أسمع الأصوات تخفت وتخفت حتى انقطعَت أو كادت في نحو الساعة التاسعة كما أنبأَتني الساعة العربية التي تدقّ في مسجد القلعة، ولم يبقَ من مسموعٍ إلا وقع أقدام الحراس على البلاط ص”١٦”)
ومن أغوار هٰذهِ "الزنزانة" الرطبة المُعدّة لإقامته ليلَ نهار، يأتينا صوته من خلال "الباب الرابع" بين أبواب سجنه، أو فصولِ كتابه قائلاً:
( وأنت أيها القاريء ـ وقاك اللـه ـ لا تعلم كما علمتُ أنا في السجن أن دخولَ الجمل في سَمِّ الخياط أيسر من دخولِ “قلمٍ” إلىٰ حجرة سجينٍ بإذن من مصلحة السجون، فإن الترخيص للسجين بحمل القلم يقتضيه . . . . أن يكتب عريضةً لإدارة السجن، وأن تُرفع هٰذهِ العريضة إلىٰ مدير المصلحة، وأن تُرفع بعد ذلك إلىٰ كلٍّ من وزير الداخلية ووزير الحقّانية، وهناك يصدر الأمر بالرفض، أو القبول إذا شملته رعايةٌ خاصة، والأرجح أن يُرفضَ لغير سبب! ص”٢٩”)
فليس في استطاعة الكاتب العملاق الذي ملأ الدنيا في زمانه وشغل الناس، ورجّ بصوته الجهوريّ العميقِ أركان البرلمان وأرجاء الوزارات، ليس في استطاعته أن يحصلَ في السجن علىٰ قلم للكتابة كما يحدث مع نزلاء السجون في البلاد الأجنبية يقول:
( كل شيءٍ في السجن ممنوعٌ حتىٰ يصدر الأمر بإباحته، فالأصل في السجن “المنع” لغير سببٍ وبغير تفسير، فإذا أُبيح عملٌ من الأعمال أو أُجيز أمرٌ من الأمور، فذاك الذي يحتاج إلىٰ سبب ويحتاج بعد ذلك إلىٰ ترخيصٍ واستئذان. الباب الخامس ص”٣١”)
وبين الثمانية عشر باباً من أبواب السجن أو من فصول الكِتاب يتنقّل بنا العقاد بين زملائه ومجاوريه من نزلاءِ السجن المحبوسين في جرائم مختلفة ممن فرضَتِ الظروفُ زمالتَهم عليه، لنقف عند الباب السادس وجهاً لوجهٍ أمام العاطفة في أوج حرارتها وروعة وهجها حين تدفع الشهامةُ أحد السجناء إلىٰ الاستجابة إلىٰ الطفل الجائع فيسرق له رغيفاً من مخبز السجن مُعرّضاً نفسه للعقاب بالحبس الانفراديّ والجلد الأليم في فناء السجن المخيف، يقول العقاد:
(. . . كان هٰذا الطفل ـ مع أقرانه الصغار ينتظرون الترحيلَ في فناء السجن المُعرّض لأنظار الرؤساء والسّجّانين ـ فمرّ به سجينٌ من العائدين في جريمة السرقة، فرفع له الطفل رأسأه وناداه بلهجة المسكنة الطبيعية التي يستشعرها الصغير في غيبة أهله وقال له: “جوعان”، فتمهّل اللصّ هنيهةً ثم قال له: “وماذا أصنع لك يا بني”، وانصرف آسفاً، فظننته لا يعود ولا يفكر بعد ذلك في الطفل المستغيث، ولكنه ما لبث أن عاد بعد دقائق ومعه رغيف سرقه من المخبز فقسمه نصفين، وأعطى الطفل نصفه، واستبقىٰ لنفسه النصف الآخر، ولو نظروه وهو يسرق الخبز لما نجا من الجلد الأليم أو السجن على انفراد)
(2)
كانت هٰذهِ هي المصادفة الأولىٰ التي أعادتني إلىٰ أَسْرِ الكتب بعد أقل من نصف الساعة فَرَحاً بالحرية والجمال بين جنبات القاهرة الخديوية، وهو الأسر الذي لا يقل حريةً ولا جمالاً حين أكون في بيتي بين السدود والحدود أستروِض بساتين الكتب وأتنسّم عبق رياضها العتيق.
علىٰ أن المصادفة الثانية لم تتأخر عن الأولىٰ إن لم تكن زاحمَتها في عنصرَيِ التوقيت والمفاجأة أيضاً، فما كدت أُمسك بالكتاب الضّال في دهشة العثور عليه، وما كدت أتفحّصه حتىٰ فوجئت بالصديق المفكّر الكبير Farid Ebraheam فريد إبراهيم مدير تحرير "الجمهورية" واقفاً إلىٰ جواري يتفقد مثلي هٰذهِ الكتب القديمة المنطرحة أرضاً، فنتوقّف معاً عن تفقّدها لنتكلم حول عودة الكتاب الضّال للعقاد، ثم نستأنف الحديث جالسَين علىٰ مقاعد محل العصائر المتراصّة علىٰ الرصيف ونعود معاً إلى الثرثرة عن حيثيات الحكم علىٰ العقاد بالسجن تسعة أشهر، حتىٰ فاجأتنا المصادفة الثالثة كما سنعرض لها لاحقاً، فلا تتمّةَ للمصادفة الأولىٰ بدون الإفاضة في الحديث عن هاتين المصادفتين في المقال القادمٍ إن شاء اللـه.
فولاذ عبدالله الأنور
.