استطاعت قصيدة التفعيلة إقصاء القصيدة العمودية التي عاشت تعبر عن آمال العرب وأشجانهم وأحلامهم وترصد أيامهم بكل ما فيها أكثر من ألف وثلاث مائة عام . ولم يحدث هذا الإقصاء عفوا بل تتضافرت عوامل كثيرة لإحداث ما حدث بعضها مسئول عنه الشعراء العموديون أنفسهم وبعضها يتعلق بالتراجع الحضاري العربي، وبعضها يتعلق بالجهل بحقيقة ما يرد من الغرب فقد كان بعضه في إطار السعي الأمريكي لتغيير العالم على الإيقاع الأمريكي بعد خروج أمريكا منتصرة في الحرب العالمية الثانية حيث وضع الامريكان لهذا الهدف نقاطًا اربعه وكانت النقطة الرابعة منها والتي أعلن عنها الرئيس هاري ترومان ١٩٤٩م تقوم بهذا الهدف تحت مسمى مساعدة الدول النامية تقنيًا وثقافيًا إلا أن الهدف كان التغيير الفكري لصالح امريكا وضد الشيوعية ومسخ هويات الأمم ذات الهويات والحضارة ومن يقرأ كتاب :”من الذي دفع للزمار ” تأليف ف.س.سندرز يقف على تفاصيل في ذلك .والزمار هنا هو كل من روّج لهذا الفكر من أبناء العالم الثالث وتم التضييق على القصيدة العمودية حتى اضطر كاتبوها أن يكتبوا شعرهم العمودي بطريقة القصيدة التفعيلة حتى يسمح له بالنشر في صحف كبرى في مصر ومجلات كبرى في العالم العربي كانت تتبني قصيدة التفعيلة وقد رصد الدكتور الطاهر احمد مكي هذا الاتجاه في الصحف في مقدمة كتابة من روائع الشعر العربي.
لم يتوقف الأمر عند ذلك كما قلت وإنما تطور إلى قصيدة النثر ، التي تحمل عنوانًا متناقضًا .
وعلى الجانب الآخر كان شعراء القصيدة العمودية المؤمنون بها قد انزووا عن الأضواء يقاومون هذا المد مستشعرين ما وقع عليها من ظلم مدركين أنها ديوان العرب حقا، ولا يليق لها أن تتراجع عن موسيقاها المكتملة إلى موسيقى ناقصة مستغربين ما جرى لها في وجود قامات سامقة من شعرائها .
لذا كان من تجليات ذلك ما سمعته لشعراء “واحة أمير الشعراء “الذين استضافتهم رابطة الأدب الإسلامي فجميع شعرائها يكتبون الشعر العمودي المقفى، وقد يتبادر إلى الذهن أن أعضاءها من المتخصصين في اللغة العربية إلا أن هذا التصور يزول عندما تجد رائد هذه الواحة الشاعر خالد سعد مدرس الرياضيات ونائبه الدكتور عبير ذكريا استاذ الميكرو بولجي في المركز القومي للبحوث وهكذا .
لا أقول إن واحة أمير الشعراء هي رد فعل للتطرف الذي وصل لما يسمى قصيدة النثر لأن التطرف في ناحية يغري بتطرف على الناحية الأخرى ،وإنما هي محاولة للعودة بالحق الى نصابة والجمال الموسيقي إلى ما كان عليه وهو أمر لا يكفيه رفع شعار أو الكتابة بشكل معين وإنما يحتاج الى تمكن وتطور في البناء الشعري والصور واللغة بحيث تصل إلى أبسط الأوساط وتستولي على معظم الاذواق أي أن يملك هذا اللون من الكتابة قدرات من شأنها إزاحة ما استجد بملكات ذاتية خاصة، وقد وقعت قصيدة التفعيلة في مرحلة من مراحلها في فخ الغموض غير المفهوم حتى من الكاتب نفسه، فضلا عما تعانيه الكتابات النثرية التي تحمل اسم الشعر .
أما الشعراء المتحمسون للقصيدة العمودية فقد كانوا شبابًا وليسوا شيوخًا وهو أمر يمنحنًا شعورا بأن المستقبل قد يشهد عودة قوية للشعر العمودي وهو ما أشار إليه الشاعر الكبير المهندس وحيد الدهشان في رائعته الشعرية التي أشاد فيها بهذا التوجه محييًا شبابها .
إذن هناك من الشباب من يحتفي بالعربية وفنونها وأكبرها فن الشعر العمودي وهناك من يعيد الخليل بن احمد الى مركز الصدارة وهو ما بدا في شعر الشباب: محمد المتولي مسلم ومحمود صالح وشريف العاقل وابو مازن عبد الكافي .
أخير فقد كان حديثي في هذا الندوة التي أدارها الشاعر والدكتور محمود خليل مدير عام إذاعة القرآن الكريم ورأسها الدكتور وائل علي السيد الاستاذ بتربية عين شمس تعليقًا على كلمة الدكتورة عبير زكريا التي تساءلت عن سر تخلفنا نحن العرب ونحن نملك ما تملكه أمريكا من أمكانيات وموارد وإن لم يكن أكثر . استعرضت عدة أمثلة تؤكد إننا ما زلنا نشهد بأهمية العلم وضرورته، ولكننا لم نؤمن به حتى الآن، لأن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل فنحن نملك من العلماء في كل المجالات الكثير والكثير ، لكننا قلما ننتبه إلى ما يصلون إليه ونطبقة . في حين يشارك علماؤنا منذ مئات السنين في صناعة الحضارة الغربية بقوة وفي كل المجالات