مُخطئ مَن يتصور أننا عندما نتحدث عن المؤامرات الخارجية التي تستهدف شظاياها المصريين، فإن المعنى الوحيد لذلك لا يبرح مربعي السياسة والاقتصاد، وكل ما من شأنه أن يتهدد الدولة بأمنها واستقرارها التقليديين، إذ أنه وقولًا واحدًا لا مجال الآن لفهم مباشر ومقصور من هذا النوع، وبخاصة في ظل ما تُسمى حروب الجيلين الرابع والخامس.
ولأكون أكثر تحديدًا، فإنني أقصد هنا ما أراه يجري تنفيذه، وربما لسنوات، كي يتسلل إلينا شيئًا فشيئًا، ومعنا باقي مجتمعاتنا العربية، ما يمكن أن نطلق عليه “عولمة مفهوم الفرد”، على حساب الأسرة ككيان مترابط يمثل إلى الآن ثابتًا مهمًا في الهوية الشرقية عمومًا، والمصرية على وجه الخصوص.
في اعتقادي، كان طبيعيًا جدًا، ومنطقيًا تمامًا أن يصبح هدفًا للقصف هذا التماسك الذي تتسم به تاريخيًا الأسرة العربية، وفي القلب منها “المصرية”، إذ يبقى العائق الأصعب أمام تغيير تركيبة هذه المجتمعات هو رسوخ قيمة الأسرة ذاتها في الوجدان العام، وبقاؤها إلى يومنا اللبنة الرئيسية في بنياننا الاجتماعي القوي.
والراصد لاتجاه الرياح الغربية التي تهب علينا من كل الجهات، سينما، ودراما، ثم منصات، وتشتد أكثر عبر “السوشيال ميديا”، ليس صعبًا عليه أن يرى ظلال هذا السعي الدءوب باتجاه محاولة نزع جذورنا الثقافية، والتشويش على موروثاتنا الاجتماعية، وخلخلة عاداتنا وتقاليدنا، وسيدرك بسهولة أن السبيل الأول لذلك هو التأثير على الأسرة للتأثير على المجتمع.
من هنا، فإن زاوية الرؤية غير دقيقة تمامًا، وهي في اعتقادي أقرب إلى العمى منها إلى الإبصار ناهيكم عن البصيرة، حينما يعتبر البعض اهتمام الدولة حاليًا باستحداث قانون جديد للأحوال الشخصية، أمرًا لا مبرر له، ولا وجاهة للاستعجال فيه، وأن الحديث ليلًا ونهارًا لا ينبغي أن يبعد مترًا واحدًا عن توابع الأزمة الاقتصادية العالمية، وكيفية ترويضها.
يتضح لنا إلى أي حد تلك الرؤية خاطئة، وإلى أية درجة ذلك المفهوم لا يتسم بأي فهم، وأن النظر “تحت الأقدام”، عندما نضع هذا الفكر السقيم في كفة، ونضع في الكفة الأخرى وعي الدولة الشديد ببحث شواغل الأسرة المصرية، والاهتمام بشئونها وبالحفاظ عليها، حفاظًا على تماسك وصلابة المجتمع بالأساس.
كلمة الرئيس السيسي الأسبوع الماضي خلال احتفالية المرأة المصرية والأمهات المثاليات، كانت كاشفة لحِكمة حُكم، وفطنة دولة ترى الأسرة “بندًا مهمًا” على قائمة أولوياتها، عندما أكد الرئيس أن مفهوم الدولة الحديثة لا بد وأن يتسع لرصد مشكلات الأسرة والمجتمع، والتصدي لها وعلاجها عبر منظومة وآليات عمل.
ودعوني أرجع معكم إلى جزئية واحدة فقط، هي نسبة الطلاق في مصر، والتي تم التطرق إليها على هامش هذه الاحتفالية.. ألم نُفاجأ جميعًا بأنها ٣% فقط، وانكشفت على مرأى ومسمع منا تلك الشائعة الكبرى التي قامت – أغلب الظن عمدًا- على “التنسيب الخاطئ” لعدد حالات الطلاق عن زيجات تمت على مدار عدة سنوات، وحسابها نسبة إلى عقود الزواج في سنة واحدة؟!
لنتفق معًا أنه من فرط الترويج للارتفاع المفتعل والمخيف في وقوع الطلاق ظننا بالفعل أننا أمام حقيقة تتأسس على إحصائية، بل وربما للأسف بنى البعض قناعاتهم فوق الرقم المتداول، الذي ثبت مؤخرًا عدم صحته، ما كاد يضر بفكرة الزواج نفسها، ومن ثم بأهمية تكوين أسرة من الأصل.
لا استبعد أبدًا أن يكون مَن أطلق وظل يُغذّي شائعة تفشي الطلاق في مصر، وبلغ بها حد ال ٣٤%، بل وروَّج مؤخرًا لتخطي النسبة واقعيًا عتبة ال ٦٥% في “سنة أولى زواج”، هو هو نفسه الممسك بخيوط المؤامرة من الخارج، وهدفه أن يضرب عصفورين بحجر، أولهما توسيع دائرة عدوى الطلاق نفسها بالنسبة للمتزوجين، فالقناعة بشيوع أمر لا شك يُهوّن منه، ومن إمكانية وقوعه، أما عن الحجر الثاني، فهو يصيب رأس كل مَن يفكر في الزواج وتأسيس أسرة، إذ وفي ظل المخاوف المزعومة، سيحسبها بدلًا من المرة ألف مرة كي لا يُلدغ من نفس الجُحر الذي سبق ولُدغ منه غيره، فيذهب بقدميه إلى محاكم الأسرة، وتذهب “تحويشة العمر”.
وحتى أكون منصفًا، وبغض النظر عن كون النسبة الحقيقية للطلاق في مصر أقل بالفعل وبكثير عن تلك المتداولة، فإننا لا يمكن أن ننكر في الوقت نفسه أن حالات الطلاق زادت نسبيًا بين الأجيال الجديدة عنها “أيام زمان”، وأن مواطن ضَعف طرأت صراحة على حال الأسرة المصرية، الأمر الذي استدعى بدوره اهتمام الدولة، ويُحمَد لها بحثها وراء الأسباب، وجديتها في إيجاد الحلول، ما يضمن بالضرورة تماسك الأسر، والعناية بالأبناء في كل الأحوال، دعمًا لصلابة المجتمع ذاته، وعناية بمستقبله.
ما ورد على لسان مفتي الجمهورية، في مداخلة له خلال الاحتفالية، كان من بين ما استوقفني بشدة.. غريب حقًا أن تتلقى دار الإفتاء نحو ٣٠٠ ألف فتوى طلاق، على مدار ٥ سنوات، بواقع ٥ آلاف فتوى شهريًا، فإذا بحالتين فقط لا غير من بينها اللتين تحققت فيهما شرعًا شروط الطلاق، ولزم توثيقه، ما يؤكد أننا في أمس الحاجة فعلًا لعلاج قطعي لهذا الخلل، الذي قد تتفكك به أسر على سبيل الخطأ، ويدفع حينها الثمن غاليًا أبناء صغار بغير ما اقترفوا.. ويتلخص هذا الحل الجذري في الخلاص نهائيًا مما يسمى الطلاق الشفهي، واللجوء الكامل بملء إرادة المجتمع إلى توثيق الطلاق.
بقى في النهاية أن أؤكد أن القانون الجديد للأسرة، والذي أعلن وزير العدل الانتهاء منه، ودخوله المرحلة الأخيرة الخاصة بضبط صياغة مواده، أشبه ب “نقطة نظام”، كان لا بد منها لمجتمع “عفي”، يعلم أولياء أمره جيدًا كيف ومتى يُقوُّون مناعته.. مهم كذلك أن نعلم أن علينا دورًا لا يقل أهمية.. أن نضع نحن أيضًا وبأيدينا “نقطة نظام”.. تفصل بين ما كان.. وما ينبغي أن يكون.
mhamid.gom@gmail.com