لم يقصد الفرزدق إلى مدح رسول الله صلى الله عليه، ولكن الأقدار ساقت له هذا الشرف، فقد عاش يمدح من يعطيه ويهجو من يمنعه، ويخاف الناس لسانه على أعراضهم فاجتنبوه وبذلوا له المال حتى يتجنبوا هجاءه، لكنه بعد أن قرر الحج في السبعين من عمره فوجيء بهشام بن عبد الملك بن مروان (ابن الخليفة الأموي في ذلك الوقت عبد الملك ) يتساءل وهو يحج عن فتى يوسع له الناس في الطرقات وحول الكعبة حتى يتسلم الحجر الأسود ويقبله، فقال كما جاء في الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني رواية عن الشعبي : من هذا ..؟
فقال أحد مرافقيه وهو الأبرش الكلبي :لا أعرفه فقال الفرزدق الذي كان حاضرًا أنا أعرفه ثم قال :
هَذا الّذي تَعرِفُ البَطْحاءُ وَطْأتَهُ،
وَالبَيْتُ يعْرِفُهُ وَالحِلُّ وَالحَرَمُ
هذا ابنُ خَيرِ عِبادِ الله كُلّهِمُ،
هذا التّقيّ النّقيّ الطّاهِرُ العَلَمُ
هذا ابنُ فاطمَةٍ، إنْ كُنْتَ جاهِلَهُ،
بِجَدّهِ أنْبِيَاءُ الله قَدْ خُتِمُوا
وَلَيْسَ قَوْلُكَ: مَن هذا؟ بضَائرِه،
العُرْبُ تَعرِفُ من أنكَرْتَ وَالعَجمُ
كِلْتا يَدَيْهِ غِيَاثٌ عَمَّ نَفعُهُمَا،
يُسْتَوْكَفانِ، وَلا يَعرُوهُما عَدَمُ
سَهْلُ الخَلِيقَةِ، لا تُخشى بَوَادِرُهُ،
يَزِينُهُ اثنانِ: حُسنُ الخَلقِ وَالشّيمُ
حَمّالُ أثقالِ أقوَامٍ، إذا افتُدِحُوا،
حُلوُ الشّمائلِ، تَحلُو عندَهُ نَعَمُ
ما قال: لا قطُّ، إلاّ في تَشَهُّدِهِ،
لَوْلا التّشَهّدُ كانَتْ لاءَهُ نَعَمُ
عَمَّ البَرِيّةَ بالإحسانِ، فانْقَشَعَتْ
عَنْها الغَياهِبُ والإمْلاقُ والعَدَمُ
إذ رَأتْهُ قُرَيْشٌ قال قائِلُها:
إلى مَكَارِمِ هذا يَنْتَهِي الكَرَمُ
يُغْضِي حَياءً، وَيُغضَى من مَهابَتِه،
فَمَا يُكَلَّمُ إلاّ حِينَ يَبْتَسِمُ
بِكَفّهِ خَيْزُرَانٌ رِيحُهُ عَبِقٌ،
من كَفّ أرْوَعَ، في عِرْنِينِهِ شمَمُ
يَكادُ يُمْسِكُهُ عِرْفانَ رَاحَتِهِ،
رُكْنُ الحَطِيمِ إذا ما جَاءَ يَستَلِمُ
الله شَرّفَهُ قِدْماً، وَعَظّمَهُ،
جَرَى بِذاكَ لَهُ في لَوْحِهِ القَلَمُ
أيُّ الخَلائِقِ لَيْسَتْ في رِقَابِهِمُ،
لأوّلِيّةِ هَذا، أوْ لَهُ نِعمُ
مَن يَشكُرِ الله يَشكُرْ أوّلِيّةَ ذا
فالدِّينُ مِن بَيتِ هذا نَالَهُ الأُمَمُ
يُنمى إلى ذُرْوَةِ الدّينِ التي قَصُرَتْ
عَنها الأكفُّ، وعن إدراكِها القَدَمُ
مَنْ جَدُّهُ دان فَضْلُ الأنْبِياءِ له
وَفَضْلُ أُمّتِهِ دانَتْ لَهُ الأُمَمُ
مُشْتَقّةٌ مِنْ رَسُولِ الله نَبْعَتُهُ،
طَابَتْ مَغارِسُهُ والخِيمُ وَالشّيَمُ
يَنْشَقّ ثَوْبُ الدّجَى عن نورِ غرّتِهِ
كالشمس تَنجابُ عن إشرَاقِها الظُّلَمُ
من مَعشَرٍ حُبُّهُمْ دِينٌ، وَبُغْضُهُمُ
كُفْرٌ، وَقُرْبُهُمُ مَنجىً وَمُعتَصَمُ
مُقَدَّمٌ بعد ذِكْرِ الله ذِكْرُهُمُ،
في كلّ بَدْءٍ، وَمَختومٌ به الكَلِمُ
إنْ عُدّ أهْلُ التّقَى كانوا أئِمّتَهمْ،
أوْ قيل:من خيرُأهل الأرْض؟ قيل:هم
لا يَستَطيعُ جَوَادٌ بَعدَ جُودِهِمُ
، وَلا يُدانِيهِمُ قَوْمٌ، وَإنْ كَرُمُوا
هُمُ الغُيُوثُ، إذا ما أزْمَةٌ أزَمَتْ،
وَالأُسدُ أُسدُ الشّرَى، وَالبأسُ محتدمُ
لا يُنقِصُ العُسرُ بَسطاً من أكُفّهِمُº
سِيّانِ ذلك: إن أثَرَوْا وَإنْ عَدِمُوا
يُستدْفَعُ الشرُّ وَالبَلْوَى بحُبّهِمُ،
وَيُسْتَرَبّ بِهِ الإحْسَانُ وَالنِّعَمُ
والقصيدة كما يبدو من السياق قيلت عفو الخاطر وردًا سريعا على تجاهل مصنوع لواحد من آل البيت معروف للكافة بدليل توسيع الناس له في زحام معروف في الطواف بالبيت، ونستطيع أن نلمح في القصيدة رائحة سخرية من المردود بها عليه، بل نستطيع أن نشم ؤائحة تعريض بالأمويين الذين أخذوا حقًا ليس لهم وذلك بمدح أصحاب الحق لذا ورد أن هشام غضب وحبس الفرزدق بين مكة والمدينة فأنشد الفرزدق قائلًا
أتحبسني بين المدينة والتي
إليها قلوب الناس يهوى منيبها
يقلب رأسا لم يكن راس سيد
وعينًا له حولاء باد عيوبها
فلما بلغته الابيات أطلقه سراحه حتى لا يناله في شعره .
وفي رواية أخرى أوردها كتاب الأغاني أيضا أن أحد وجوه أهل الشام الذين جاءوا مع هشام سأل هشام قائلا من هذا فقال هشام لا أعرفه وهو أعرف الناس به فارتجل الفرزدق الرد لذا قال في القصيدة :
وليس قولك من هذا بضائره
العُرب تعرف من أنكرت والعجم
ومن يقرأ ديوان الفرزدق لا يجد مدحًا لرسول الله وآله وصلوات الله وسلامه عليه وآله إلا في هذه القصيدة ومن يقرأ سيرة الشاعر الذي وصف بأشعر شعراء عصره يعرف أنه شاعر لم يكن يعبأ بقيم الدين في سلوكه ،لكنه عندما سمع من يلمز أحد أبناء بيت النبوة من قبل رجال الحكم في ذلك الوقت ثارت حميته ورد ردًا سريعًا فيه ما فيه من التعريض بولي العهد وبالأمويين جميعًا وهو ما يوفقنا على أثر الدين في نفس الإنسان حتى ولو كان غير ملتزم بقيم الدين إلا أن هذا الذي لا يلتزم ينتفض غضبًا إذا ما تعرض رمز من رموز الدين للهجوم، فما بالنا إذا كان هذا الرمز حفيد رسول الله صلوات الله عليه وسلم .
من يتأمل القصيدة يجدها مدحا لسيدنا على زين العابدين بن الحسن بن الامام على بن أبي طالب ثم مدحا لجده النبي صلوات الله وسلامه عليه وكذلك مدحا لآل البيت جميعا ،كما استعرضت القيم العليا التي دعانا إليها الدين ويتصف بها الرجل الكامل، كما تتضمن القصيدة منزلة حب الرسول وآله عند الله
من مَعشَرٍ حُبُّهُمْ دِينٌ، وَبُغْضُهُمُ
كُفْرٌ، وَقُرْبُهُمُ مَنجىً وَمُعتَصَمُ
كأنه يذكرنا بقول الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾
و يذكرنا بما جاء في صحيح مسلم
قالَ عَلِيٌّ: والذي فَلَقَ الحَبَّةَ، وبَرَأَ النَّسَمَةَ، إنَّه لَعَهْدُ النبيِّ الأُمِّيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ إلَيَّ: أنْ لا يُحِبَّنِي إلَّا مُؤْمِنٌ، ولا يُبْغِضَنِي إلَّا مُنافِقٌ.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: مَن أحبَّ الحسنَ والحُسَيْنَ فقَد أحبَّني ، ومَن أبغضَهُما فقد أبغضَني”
كما يشير في قوله:
يُستدْفَعُ الشرُّ وَالبَلْوَى بحُبّهِمُ،
وَيُسْتَرَبّ بِهِ الإحْسَانُ وَالنِّعَمُ
يشيرالى استشفاع المسلمون عند الله بصالح الأعمال أو بأصحاب الصلاح كما جاء في صحيح البخاري أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ، كانَ إذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بالعَبَّاسِ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْكَ بنَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَتَسْقِينَا، وإنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْكَ بعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا قَالَ: فيُسْقَوْنَ “
أريد ان أقول إن غالبية ما جاء في القصيدة له أصل في الاصلين : الكتاب والسنة ،بقي أن نقول أن اسم الفرزدق كان لقبا ويعني الرغيف المدور الضخم لضخامة وجهه أما اسمه فهو همام بن غالب بن ضعصة بن مجاشع.
لما نبغ في الشعر قيل له: مالك والشعر فوالله ما كان أبوك غالب شاعرًا؟ ولا كان صعصة شاعرًا ؟ قال من قبل خالي ،قيل أي أخوالك قال : العلاء بن قَرَظة الذي يقول :
إذا ما الدهر جر على أناس
كلاكله أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقو
سيلقى الشامتون كما لقينا
وتذكر كتب السير نقلا عن الاغاني لابي الفرج الأصفاني أن جد الفرزدق صعصة اشتهر بمحيي الموءودات ذلك أنه رأى أمرأة تبكي وزوجها يحفر حفرة فقال لها مالك؟، قالت :يريد أن يئد ابنتي، فقال له : ما حملك على هذا ؟ قال له الفقر، فقال صعصة فإني اشتريها منك بناقتين يتبعهما أولادهما تعيشون بألبنهما، ولا تئد الصبية ،قال الرجل قد فعلت أي أنه وافق على هذا الاقتراح ،فأعطاه الناقتين وجملًا كان يركبه محملًا ،وقال في نفسه إن هذه المكرمة ما سبقني إليها أحد من العرب ، وقرر أن يفتدي أي صبية يحاول أبوها وأدها فجاء الاسلام وقد أفدى أكثر من ثلاثمائة نفس، ووفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكى ما كان منه وسأله ألي ثواب ذلك ؟ قال :نعم ،فأسلم كما وفد أبو الفرزدق على رسول الله وأسلم أيضًا
وعندما بدأ الفرزدق يقول الشعر جاء به أبوه إلى على بن أبي طالب بعد موقعة صفين ،وقال له: إن ابني هذا يقول الشعر فقال له علمه القرآن الكريم فصمم الفرزدق على تنفيذ هذه النصيحة، وقيل إنه قيد نفسه بقيد حتى حفظ القرآن الكريم
كما اشتهر الفرزدق بما سمي شعر النقائض هو وجرير وهي عبارة عن سجال شعري بين شاعرين يمدح كل واحد نفسه وقبيلته ويهجو الآخر فيرد المهجو بقصيدة على نفس الوزن والقافية وكانت تعقد لهم المباريات التي يحضرها الجمهور وينحاز الشعراء إلى هذا أو ذاك فتتسع دوائر السجال ،وقد شجع الأمويون مثل هذا اللون لشغل الناس عن التفكير في القضايا السياسية ،فقد كان الشعر هو الوسيلة الإعلامية الأقوى في ذلك الوقت وكان بطلا هذا السجال الفرزدق وجرير وينضم إليهما الأخطل.
والفرزدق من أكثر من كتب شعرًا اتخذه الناس مثلًا ومن ذلك قوله:
وكنا إذا الجبار صعر خده
ضربناه حتى تستقيم الأخادع
ويقول:
فيا عجبا حتى تميم تسبني
كأن أباها نهشل ومجاشع
ونهشل ومجاشع من أجداده فهو يفتخر ويهجو في نفس اللحظة
ويقول :
وكنتَ كذئب السوء لما رأى دمًا
بصاحبه يومًا أحال على الدم
ومن ذلك قوله في زوجته نوار التي تسعى إلى الطلاق
هلمي لابن عمك لا تكوني
كمختار على الفرس الحمارا
وعندما وافق على طلاق زوجته نوار قال :
نَدِمتُ نَدامَةَ الكُسَعِيِّ لَمّا
غَدَت مِنّي مُطَلَّقَةً نَوارُ
وَكانَت جَنَّتي فَخَرَجتُ مِنها
كَآدَمَ حينَ لَجَّ بِها الضِرارُ
وَكُنتُ كَفاقِئٍ عَينَيهِ عَمداً
فَأَصبَحَ ما يُضيءُ لَهُ النَهارُ
وَلا يوفي بِحُبِّ نَوارَ عِندي
وَلا كَلَفي بِها إِلّا اِنتِحارُ
وَلَو رَضِيَت يَدايَ بِها وَقَرَّت
لَكانَ لَها عَلى القَدَرِ الخِيارُ
وَما فارَقتُها شِبَعاً وَلَكِن
رَأَيتُ الدَهرَ يَأخُذُ ما يُعارُ
ويقول أيضا مما يتخذ حكمة ومثلًا
فما المرء منفوعًا بتجريب واعظ
إذا لم تعظه نفسه وتجاربه
ولا خير مالم ينفع الغصنُ أصلَه
وإن مات لم تحزن عليه أقاربه
وبعدُ ، فهذه حكاية شاعر نال شرف مدح رسول الله صلى الله عليه في قصيدة من عيون شعر العرب بلاغة وبساطة وإشارة إلى قيم الدين الحنيف ومكانة آل البيت لدى المسلمين وقد نالت هذه القصيدة شهرة واسعة لدى المسلمين “