من عجيب المفارقات فى زماننا أن يبلغ الشطط ببعض مثقفينا حد التشكيك فى الإسلام وتراثه وقيمه ورموزه، والزعم بأنه سبب تخلفنا الحضارى والعلمى، وذلك فى الوقت الذى يكتشف بعض المثقفين فى الغرب أن رؤية مجتمعاتهم للإسلام كانت ظالمة ومنحازة، ويدعون لإعادة النظر إلى الإسلام بعين موضوعية منصفة، وتخليصه من الشوائب والتشوهات التى ألحقها به الكارهون على مر العصور.
بعض المثقفين عندنا تخصصوا ـ كرها أو طمعا ـ فى تشويه كل مايمت بصلة للإسلام والثقافة الإسلامية العربية، ووجدوا من يشجعهم ويساندهم ويمولهم، من الداخل والخارج، باعتبارهم شركاء فى ترويج المشروع التغريبى، الذى يعمل على فصل بلادنا عن جذورها العربية الإسلامية، فى حين ظهرت فى الغرب دعوات قوية من مفكرين ومستشرقين تطالب بضرورة تصحيح الصورة السلبية التى تشكلت فى بلادهم عن الإسلام والمسلمين والعرب لأسباب سياسية، بأقلام كتاب جاهلين أو حاقدين أو مأجورين، فى مراحل الصراع المختلفة عبر التاريخ.
هذه المفارقة لاحت لى وأنا أطالع صفحات من كتاب المستشرق الألمانى توماس باور ( ثقافة الالتباس: نحو تاريخ آخر للإسلام) الذى ترجمه إلى العربية رضا قطب، وفيه دعوة صريحة إلى ضرورة تصحيح موقف الغرب السلبى من الإسلام، حيث يقول المؤلف : ” إن الغرب كثيرا ما اعتمد فى تكوين جزء من هويته على صورة عدائية مشوهة للإسلام، تعتبره دينا عدوانيا معاديا للديمقراطية والحرية، وكثيرا ما استخدم السياسيون هذه الصورة المشوهة لتبرير حروبهم ضد العالم الإسلامى، فى حين أن الإسلام دين تنويرى، اتسم بالتعدد والانفتاح على الآخر، واستوعب الفرق والمذاهب، وتعايش مع الثقافات الأخرى التى احتك بها، وهذا التعدد هو الذى أغنى الإسلام بكل المذاهب الفكرية والفقهية والأصولية، وحتى الفنية والأدبية، حيث وجدت هذه المذاهب فى رحابة الإسلام قبولا، بعكس الحداثة الغربية التى قضت على التعدد، ومكنت لهيمنة أيديولوجيا واحدة، هى الفهم الغربى ورؤيته للعالم، واعتبارهذه الرؤية هى الممكن الأوحد والمقبول، وحين كانت أوروبا تعيش فى العصر الوسيط بمنطق الواحدية ورفض الآخر والعصبية المذهبية كان العالم الإسلامى يتمتع بالمرونة والدينامية والانفتاح على الآخر المختلف، وهذا يعود بالأساس إلى القرآن ذاته، باعتباره النص الأول المؤسس للفكر والحضارة الإسلامية، وهو نص مفتوح خصيب، قابل للقراءات والتأويلات المتعددة، ولا تستنفد معانيه بالتفاسير”.
ولم ينس المؤلف توجيه سهام النقد اللازع لأنصار التيار التغريبى من المثقفين فى العالم الإسلامى، الذين صاروا ـ حسبما قال ـ أداة لتكريس التبعية، وفرض هيمنة الغرب على بلادهم سياسيا وثقافيا، من خلال تبنى شعاراته الخادعة كالليبرالية والعلمانية والحداثة.
ولم يكن توماس باور الصوت الوحيد فى هذا الميدان، الداعى لتصحيح صورة الإسلام فى الغرب، فقد سبقه وجاء من بعده آخرون، وقدمت مدرسة الاستشراق الألمانية جهدا متميزا فى هذا الصدد، كان هوالأكثر قربا من الموضوعية، والأكثر بعدا عن الاستعلاء والتعصب، ومن هذه المدرسة خرجت المستشرقة زيجريد هونكة ( 1913ـ1999) صاحبة كتاب (الله .. ليس كمثله شيء: الكشف عن ألف فرية وفرية عن العرب) الذى ترجمه للعربية محمد عونى عبدالرؤوف، وفيه تؤكد : ” إن الإسلام هو أكثر الأديان التى ظهرت على الأرض تسامحا وإنصافا، هذا ما ينبغى أن نقوله بلا تحيز أو تشويه له بادعاءات ظالمة، ومغالطات تاريخية تعكس جهلا فادحا، وعلينا أن نتقبل المسلمين شركاء وأصدقاء، وأن نعترف بأن من حقهم أن يظلوا كما يريدون هم أنفسهم”.
والسيدة (هونكة) هى صاحبة كتاب (شمس العرب تسطع على الغرب: أثر الحضارة العربية فى أوروبا)، وهو كتاب جاد رصين، رصدت فيه تأثير العرب على أوروبا فى مجالات عديدة ومهمة جدا، مثل التجارة والصناعة والرياضيات والأرقام وعلوم الطبيعة والفلك والطب والأدب وفروع المعرفة والثقافة العامة.
أما الكاتبة البريطانية ذائعة الصيت (كارين آرمسترونج ) المتخصصة فى بحوث مقارنة الأديان فلها العديد من الكتب التى تشرح حقيقة الإسلام، وتدحض الأكاذيب والافتراءات التى ألصقت به، ومن أشهر هذه الكتب (محمد.. نبي لزماننا)، و(الحرب المقدسة : الحملات الصليبية وأثرها على العالم اليوم)، و(حقول الدم : الدين وتاريخ العنف)، و(النزعات الأصولية فى اليهودية والمسيحية والإسلام).
وفى كتابها (الإسلام فى مرآة الغرب) تلقى آرمسترونج الضوء على ما يوجه للإسلام من تهم، والمحاولات الدؤوبة المتعمدة لتأكيد هذه التهم من خلال مايجرى على الساحة الدولية من أحداث، وتؤكد أنها من خلال دراستها للتاريخ وإجراء المقارنات بين الطرفين ــ الغرب والشرق العربى والإسلامى ــ قد خلصت إلى أن صورة الإسلام والنبي محمد، صلى الله عليه وسلم، ” كانت مشوهة بشكل ظالم فى مرآة الغرب على مر العصور ولا تزال، وحتى النهضة الأوروبية وشعاراتها لم تستطع إزالة العداء للإسلام، بل ربما زادتها، ولا يلوح فى الأفق أن العصرنة الراهنة، الرافعة لواء الحرية وحقوق الشعوب، قادرة على أن تزيل ركامات العداء”.
وترى أن الغرب يتحمل مسئولية حالة اللاتوازن والعنف والتعصب التى يعيشها الشرق العربى الإسلامى، كما ترى أنه ما لم يكف الغرب عن سعيه الحثيث إلى سحق الشخصية العربية الإسلامية وإذلالها فستكون هناك كارثة تضر، ليس بطرف واحد، وإنما بالطرفين معا، ولذلك فهى تناشد المفكرين الغربيين أن يحكموا ضمائرهم، وينصفوا الإسلام من خلال مايدرسونه ويعرفونه، وليس مما ورثوه من تركة العداء.