لا تزال أم كلثوم تشغل الوجدان والأسماع بكل الميراث الراسخ الذي تركته لجيلها والأجيال التالية على الرغم من سيطرة ثقافة وفنون التفاهة في الفترة الراهنة. أم كلثوم تعد أحد أهرامات مصر باعتبارها عالماً مذهلاً به مستغلقات تغري وتحتاج لجهود الكشف عن تفاصيل مشروعها الإبداعوي في عالم الأنغام.
من المؤلفات الحديثة التي كشفت النقاب عن تفاصيل مهمة جديدة من إبداعات “ثومة” ذلك الكتاب السفر الفريد الذي فاض به الأستاذ الدكتور أحمد يوسف علي الحاصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب بعنوان ” أم كلثوم الشعر والغناء”؛ والذي صدر عن “مركز أبوظبي للغة العربية”؛ وشهد احتفاءً كبيراً به؛ وقد فزت بشرف كتابة تصديرِ له؛ والمشاركة في ندوة خاصة بمعرض القاهرة الدولي للكتاب.
وقد قدمت جهد قراءة سابحة في حواف ما ابتناه الاستاذ الدكتور أحمد يوسف علي من متن جديد حول مُنتج أم كلثوم الأيقونة والرمز الفذ في تاريخنا الثقافوي والإيديولوجي والفني. فبنية هذا السِفْر بتنوع محاوره تبرز ـ وهذا هو مكمن الجدة ـ ثقل القراءة في مجال لغة الضاد/ القصائد الفصحى وليس الأغنيات باللهجة المحكية الدارجة والتي نالت حقها بإفراط في مؤلفات عديدة طيلة تاريخ “ثومة”.
لكن كتاب “أم كلثوم… الشعر والغناء” لم يُغادر قط حقل الضاد بمحاوره الخمسة: الشعر والغناء/ غناء القصائد/ شوقيات أم كلثوم بين التلقي وتاريخ الأدب/ أم كلثوم تؤلف الأطلال/ الخطاب الشعري والأيديولوجيا.
- وفي كل محور من هذه قدم أستاذنا الإحاطة الواجبة كما ينبغي، ليثري معرفة المتلقي بما يكشفه من خفايا الخطاب للحضور الكلثومي الذي لا يخفت بريقه مهما مرت السنون وتباعدت وازدحمت أركان المكتبات بالمؤلفات المتعلقة بها.
- إن كتاب “أم كلثوم… الشعر والغناء” يقدم قراءة خاصة وعميقة لمشروع النوع الفني المرتبط بالضاد؛ وهو ما سيُسعد القارئ لمتن ذلك الكتاب بمعرفته حلاً للعديد من الإشكاليات في هذا المجال من نوعية: كيف تخيرت النصوص التي جعلت منها علامات في تاريخ الشدو بالعربية؟ وهل حقا كان هناك من يختار لها القصائد؟ وأيضا من كان يعيد الصياغة والبناء والإبدال والتركيب للنصوص المُغناة… (أحمد رامي أنموذجا)؟
- أن ما سيكتشفه القارئ لهذا السفر سيهديه لملامح جهد كبير مضمر كانت تبذله “ثومة” في حقل القصيدة العربية المغناة؛ ولا تنقطع عن امتداد التاريخ العميق لفنون الغناء العربي؛ ولكن لا تندرج في نمطيته التقليدية؛ اكتفاءً بالآداء فقط وإبراز القدرات الخرافية لحنجرتها؛ بل تجاوزت أم كلثوم ذلك إلى إعادة إنتاج النصوص المختارة في البُنى والدلالة ببراعة مدهشة. لذلك وصفها أستاذنا بـعبارة: ” كانت أم كلثوم علامة فريدة في تاريخ العلاقة بين الشعر والغناء”.
- لذلك سيتوقف القارئ أمام عناوين وعبارات دالة داخل الكتاب من نوعية:” أم كلثوم تؤلف الأطلال”؛ و”شوقيات أم كلثوم”؛ و” قدرة أم كلثوم على التأليف بين أجزاء النص المختار استجابة للمتغيرات الثقافية والاجتماعية”؛ و”ما اختارتها أم كلثوم من شعر شوقي وكونتها وأعطتها سمات النصية”؛ و”لم يتوقف دورها عند حدِّ إمتاع الناس بغنائها … بل امتد إلى تعليمهم وتثقيفهم وبناء وعيهم بقضايا أمتهم وتاريخها؛ وحققت بالغناء ما لم تحققه السياسة من وحدة الأمة”.
- يقول أستاذنا: النصوص التي تضمنها المبحث الأول (شوقيات أم كلثوم) كتبها أحمد شوقي، وغدت جزءاً أصيلاً من تاريخ الأدب، سلطت عليها أم كلثوم أنظارها الفكرية والفنية على مدار ثلاثة عقود وبذلك صارت مثالاً للتلقي الفعَّال من زاوية تكوين النص ليُغَنَّى. فأم كلثوم حين تُغني لشاعرٍ ليس على قيد الحياة، فهي تتحاور مع النص من حيث مكوناته، ومن حيث ظرف إنتاجه، ومن حيث ظرف استدعائه. وهذا يفرض عليها أن تُكَوِّن نصاً جديداً يستجيب لرؤيتها هي التي تستجيب لمقتضيات الواقع الاجتماعي والثقافي من جهة، ومقتضيات فن مختلف عن فن الشعر تمثل الكلمة فيه أحد أبعاده الثلاثة أو إن شئت فقل أحد أبعاده الأربعة.”
- ويقول أستاذنا في النسق ذاته: ” أم كلثوم تؤلف الأطلال”. إذ كيف تؤلف أم كلثوم نصاً شعرياً معروفاً عند الناس، وله نسبٌ أصيلٌ إلى صاحبه وهو إبراهيم ناجي؟ وبيَّنت في هذه الدراسة كيف أن أم كلثوم أنشأت نصاً جديداً يخصها هي من حيث الإنشاء والتكوين، ومن حيث تلقيها للنص الأول الذي كتبه إبراهيم ناجي، فعدَّلت وقدَّمت وأخَّرت واستَعَارت مقاطع أخرى من نصٍ غير نص الأطلال – الوداع – حتى استوى على يديها نصٌ له نسبٌ أصيلٌ إليها، ونسبٌ من حيث الميلادِ إلى الشاعر إبراهيم ناجي. وهذا هو التأليف الذي أقصده وقصدته أم كلثوم.”
- ويحدد أستاذنا سر المسألة بقوله الوازن:” إن الوعي المُبِّكْر عند أم كلثوم بالشعرية كوَّن معيار التلقي، وحدد مجالاته، فاتجهت إلى كبار الشعراء في تراث الشعر العربي، كما اتجهت إلى أحمد شوقي ورأت فيه شاعراً يمثل أصالة هذا الشعر ولكن معيار التلقي وهو الشاعرية عند أم كلثوم، لم يكن المعيار الوحيد الذي حدد توجهها ونوعية اختياراتها”.
- ويضيف: “إن أساتذتها كانوا أربعة على رأسهم القرآن:” لقد قرأته وحفظته وتعلمت منه شيئاً أعتز به دائما هو سلامة مخارج الألفاظ. وهي مسألة أساسية لأي صوت”. ولعلنا نلحظ الصلة القوية بين القرآن والشعر العربي في تكوين شخصية أم كلثوم الثقافية واللغوية والنقدية، وفي بلورة أدواتها وهي الحس النغمي، وضبط الأداء، والقدرة على التمييز والانتقاء”.
هذه بعض لمحات لجهد شيخ العربية ا. د أحمد يوسف علي في كتابه الجديد ما يحفز المتلقى لاكتشاف المزيد عبر تحريض العقل للتفكر في هذه الموضوعة؛ وتَبَيُّن أبعاد مشروعه؛ فمَهَمَّة العَالِم هي تحفيزك للتأمل بما يفيض به من علم في صورة رأي أو موقف لا يجتر ما قاله الآخرون أو توصلوا إليه.
**لذلك يمكن القول أن أم كلثوم في النص الشعري الذي قامت بغنائه كانت في كثير من الأحيان عند موقف الاختيار تخضعه لذائقتها الذاتية؛ والذائقة تتشكل عبر تربيتها الذهنية المعرفوية والتي تأسست أول ما تأسست في الفضاء القرآني الحاكم لجنس اللغة المغناة والحافظ لنقائها. لذلك لم تنفصل تلك الذائقة عن سياقها فتجلت استطاعتها حين الاختيار البارع من العربية الفصحى أو العربية الدارجة بتوظيف القدرات الشعرية الكامنة لديها؛ وحتى ولو لم تنتج نصاً كلاميا ممهوراً باسمها كشوقي أو ناجي أو حافظ أو الحمداني أو الخيام فلربما يكون ذلك موجوداً مختبئاً في أضابير زمانها، ولعل في المقبل يمكن العثور عليها كما اللُّقى الأثارية؛ ففوق كل ذي علم عليم.
** والسؤال المهم هنا هو: هل أم كلثوم شاعرة بدلالة الاصطلاح؟ أستاذنا أكد ذلك بعمله هذا؛ حتى وإن كما قلنا لم تكن لها نصوص مكتوبة؛ إذ الشعر نوعاً قبل أن تجري كتابته كان نصاً شفاهياً محكوماً بوحدات إيقاعوية سُمِّيت لاحقاً بالتفعيلة المحكومة بالأبحر التي استنبطها الفراهيدي؟ لذلك فـ “نصوص أم كلثوم المموسقة” كانت تعتمد على المُتاح من أبنية الشعر تلك المنتسبة إلى شعرائها.
** وهذه القدرات الشاعرية الفذة المضمرة لدى ثومة تجلت بقوة في مُكنتها الخاصة بإعادة ابتناء النصوص المُغناة. إذ تجلت قدراتها الشاعرية في تركيز وضبط المتون التي انتقلت لنصوص سماعية في “زمن الموسقة”.
** لذلك فإنني أتفق مع أستاذنا بحق قوله: “أم كلثوم كانت ناقدة بصيرة بما تقول وبمكونات الشعر ومن أهم مكوناته الصورة، وقد مارست وظيفة الناقد البصير فيما تقرأ وفيما تنتقي وتختار وفيما تقدمه لجمهورها من المتلقين؛ وقراءتها هي إعادة إنتاج للنص الشعري في ضوء ظروف مقامية تختلف عن مثيلتها عند شوقي وسواه وما عمل أم كلثوم إلا إنتاج لنص ٍ جديد ّ مبني على نص سابق؛ بماّ يعني أنه قراءة إنتاجية من جانب، وتفسيرية من جانب آخر، فأم كلثوم منتجة ّ لنص له سِمِتُهُ التي تنتسب إليها، وهي إذْ فعلت ذلك قدمت قراءة ً تفسيرية ً جديدة ّ لعالم النص الذي اختارته.”
** وهذا القول يدفعنا للتأكيد أن أم كلثوم وفق التقدير كانت تتعامل مع النصوص الشعرية التي تموسقها بعد إعادة بناء نصوصها بمستويين ذاتيين:
- المستوى الأول: الشاعر المُضمَر لديها، أي صاحب الذهنية والذاكرة والمعجمية والقدرة على البناء والنسج النصي للمتون؛ ولذلك برعت في الاختيار والترتيب والتغيير وهي محكومة بضوابط الموسقة لتنتج نصها المستجلب من شعر الشعراء الآخرين وتُغَطِّيه بالأنغام.
- والمستوى الثاني: القارئ المستمع لديها؛ الذي يتلقى النص الوارد من الآخر وهو يطالعه متأملاً في موسيقاه المكنونة ومستدعياً معانيه المضمرة فتتولد لديها التصورات المباشرة المقصودة من الشاعر والمعاني الأخرى المتولدة في ذهنها باعتبارها ابنة مدرسة التجويد القرآني منذ البداية، وتُكسب المعاني المحمولة حضورها في الإيصال بالمد والقطع والتفخيم والترقيق والهمس والتكرار… إلخ
- وهذا ما يؤكده أستاذنا بذكره:”أم كلثوم تؤلف الأطلال” و”شوقيات أم كلثوم” وما كانت عبارته:” إن نص” سلوا قلبي” نص كلثومي خالص، صنعته هي كما رأت، باعتبار أن مفهوم النص ليس مفهوماً ثابتاً وأنه ليس له حدود، كما أن قراءته ليست بحثاً عن معنى ولكن عن معان متعددة بتعدد القراءات.”.
- وما أروع وبلاغة أستاذنا بذلك الخطاب الذي يجعلنا نتوافق معه التوافق المطلق؛ مؤكدين أن تجربة أم كلثوم في النصوص الشعرية التي قدمتها كانت تطبيقاً عمليانياً لمُنجز “رولان بارت” المبهر في القراءة والمعروف بـ “موت المؤلف”؛ والذي لا يعني قتله وإبادته كمُنْتِجٍ أساس؛ ولكن قطع علاقة النص الأول بمنتِجِه وتحريره من ربقته. وحسب ما ورد في كتابه (درس السيميولوجيا): “إن نسبة النص إلى مؤلفه معناها إيقاف النص وحصره وإعطائه مدلولا نهائيا”.
وهو أيضاً ما حدده الدكتور عبد الله الغذامي بأنه :” تحرير النص من سلطة المؤلف”. وكل ذلك يعني تجسيد أم كلثوم لهذه المناهج بتلقائيتها الفطرية وليست الأكاديموية فهي خريجة “كتاب القرية” عندما كانت تبتني “شوقياتها” و”تؤلف الاطلال” حسب تعبير أستاذنا الدكتور أحمد يوسف علي؛ إذ تحررت كقارئة من سيطرة واستبداد المؤلف الأساس وأعطت الأولوية لذات النصوص منفصلة عن المؤلفين فأنتجت أعمالها الذاتية المناسبة للموسيقا والمناخات السياسوية الدافعة لعمليات الغناء.
وهنا نتذكر ما نُسب إلى الإمام علي ابن أبي طالب “كرم الله وجهه” في كتابه “نهج البلاغة” بأن: (هذا القرآن إنما هو خط ٌّ مسطورٌ بين الدَّفَتَيْن، لا يَنْطِقُ بلسانٍ، ولا بُدَّ له من تَرْجُمان، وإنما يَنْطِقُ عَنه الرِّجَال). وهذا ما يؤكد النتائج التي تم التواصل إليها في سِفر “أم كلثوم… الشعر والغناء”؛ حيث نطقت أم كلثوم بما أدهشنا؛ وهيمن على ذائقتنا فنعود إلى تسجيلاتها ليغتسل وجداننا في هذا الزمان من جديد.