لم يكن سهلا في يوم من الأيام فهم آليات عمل العلاقات العربية العربية، كانت على الدوام علاقات متشابكة ومحاطة بالكثير من التوترات ومحكومة بأفكار الأفراد أكثر بكثير من معطيات الواقع ومن فكرة الأمة الواحدة التي تستدعي بالضرورة المزيد من الترابط وكانت، في الكثير من أوقاتها، أبعد عن تكون كونها علاقات تنطلق من الفكرة الحضارية، الأمر الذي أنشأ مصطلح «الخلافات العربية العربية» الذي كان حاضرا على الدوام في قمم جامعة الدول العربية طوال مسيرتها منذ منتصف أربعينيات القرن الماضي وإلى القمة الأخيرة التي عقدت في مدينة جدة السعودية يوم الجمعة الماضي.
رغم ذلك يمكن بكثير من الاطمئنان استثناء العلاقات العمانية العربية، بين ما يمكن استثناؤه من هذا المشهد، فقد كان مسارها على الدوام مختلفا عن الكثير من المسارات التي وقعت في فخ الخلافات، وما صاحبها من قطيعة بين الدول في العالم العربي تسببت في تضييع الكثير من أحلام الأمة وطموحاتها عبر مسيرة التاريخ الطويلة. وإن كانت هذه الحقيقة باتت معروفة في العالم العربي على المستويَين الرسمي والشعبي، فإن هذا الأمر أكثر وضوحا في حالة العلاقات العمانية المصرية التي بدأت في بلورة استثنائيتها قبل أكثر من ٥ آلاف سنة من اليوم. وتلك الاستثنائية تعود لأسباب كثيرة ومتعددة، لكن أكثر سبب تأسست عليه تلك العلاقة وأجده جديرا بالذكر هنا هو السبب الحضاري، فقد كانت عُمان تنظر وهي تغذّي وتنمّي علاقتها بمصر وتحافظ على بقائها واستمرارها إلى الأسباب الحضارية التي تجمع بين البلدين أكثر بكثير من الأسباب الآنية أو المعطيات المتغيرة والتي تصاحب عادة صعود الدول وهبوطها، فعُمان حضارة عريقة أثرت وتأثرت بالحضارة المصرية منذ فجر التاريخ.
كما كانت عُمان تنظر في ثبات علاقتها مع مصر إلى مركزيتها كدولة كبرى، تلك المركزية التي صنعها التاريخ العريق والمنجز الحضاري للإنسان المصري.
ولذلك ليس مستغربا أن تكون العلاقة العُمانية بمصر ممتدة منذ عهد الملكة المصرية حتشبسوت قبل حوالي ٥ آلاف سنة من الآن وفق ما يدوّن التاريخ في أوراقه وما نقشه على الصخور الصلدة في الأودية والكهوف والجبال الشاهقة وإلى هذا اليوم الذي يبدأ فيه صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- زيارته الرسمية الأولى لمصر دون أن تتأثر بأي من المتغيرات لأنها قائمة على أسس حضارية راسخة وليس نزقا فرديا لحظيا.
وهذه الجوانب الحضارية والتاريخية التي تقف عليها العلاقات بين البلدين وما أفرزته من نضج سياسي ودبلوماسي مهمة لمستقبل العلاقات بين البلدين في هذه المرحلة من مرحل التاريخ.
إن أمام حضرة صاحب الجلالة السلطان المعظم وأخيه فخامة الرئيس المصري تاريخ طويل أسس لهذه اللحظة الجديدة التي يسعى فيها البلدان الشقيقان لبناء شراكات تجارية جديدة تواكب تطلعات الشعبين الشقيقين. ورغم أهمية الملف الاقتصادي الذي سيكون حاضرا في القمة بين الزعيمين فإن الهمّ العربي الذي يؤرق الأمة سيكون حضوره أوسع وأسئلته أكبر، خاصة أن سلطنة عُمان تضطلع الآن بدور كبير في حلحلة الكثير من الخلافات العربية العربية والخلافات العربية الإقليمية في محاولة لبناء منطقة يسودها الهدوء والرخاء وتسمح بعودة الفعل الحضاري لها بعد سنوات طويلة من حالة الانسداد الحضاري.. وإيمان عُمان الراسخ أننا لا يمكن لنا التقدم دون أن تتصالح الأمة مع نفسها ومع محيطها وتكون قادرة على التفاعل الإيجابي والبناء الإنساني الذي يصنع الحضارة ويبني التفاهم والتعايش السلمي داخل الحضارة العربية نفسها أو بينها وبين مختلف الحضارات الحية في العالم أجمع كما كان الوضع في زمن القوة والفعل العربي الحقيقي.
هذا هو الملف الأهم الذي تأتي ضمنه هذه الزيارة التاريخية التي تبدأ اليوم الأحد.. أما على المستوى الثنائي فبين البلدين الكثير مما يمكن تفعيله سواء في الجانب الاقتصادي الذي يشغل المرحلة أو في الجوانب السياسية والثقافية والاجتماعية والتعليمية.
في المجال الاقتصادي، هناك فرص كبيرة للتعاون، لا سيما في قطاعات مثل الطاقة المتجددة والسياحة والتكنولوجيا الرقمية، ومن خلال توقيع شراكات بين البلدين وتوضيح الفرص الاستثمارية يمكن دفع النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل والمساهمة في الازدهار المحلي في البلدين وكذلك الإقليمي.
وسياسيا، يمكن لسلطنة عمان العمل مع مصر من منطلق مركزيتها الحضارية والتاريخية لمواجهة التحديات المعقدة التي تواجه العالم العربي وتهدد وجوده في الكثير من الأماكن بدءا من القضية الفلسطينية واليمنية والسودانية والليبية واستكمال عودة سوريا لمحيطها العربي ويمكن أن تؤدي الدبلوماسية العمانية المدعومة من مصر دورا كبيرا في هذا الشأن خاصة أن الدبلوماسية العمانية باتت تحظى بالكثير من الاحترام والثقة في العالم العربي.
وفي الجانب الثقافي يمكن للبلدين الاستمرار في التعلم من بعضهما البعض، وتعزيز التبادل الثقافي والتفاهم من خلال الاحتفاء بالمواريث الثقافية والتراثية وهي قادرة على إذكاء الشعور بالوحدة والتضامن وقبول التعدد الثقافي.
وأمام كل هذا الأمر تبدو بشكل واضح جدا أهمية تعزيز العلاقات بين البلدين وفي مختلف المجالات والمسارات.
وإذا كان المستقبل مليئا بالكثير من الوعود والأحلام فإن اللحظة التي نعيشها مليئة بالكثير من الحقائق التي تسهم في تحقيق تلك الوعود والأحلام.. وما دامت الإرادة السياسية والشعبية مصرّة على تحويل تلك الوعود والأحلام إلى حقائق فعلينا العمل معا على جعلها تتحقق فعلا.
لكن الأهم من كل ذلك أن نعمل جميعا على جعل تلك المبادئ التي تأسست عليها العلاقات التاريخية بين البلدين ثابتة وصامدة في وجه أي رمال متحركة يمكن أن تُظهر تحديات جديدة، ونلتزم أن تبقى تلك المبادئ الخالدة بمثابة منارة توجه الطريق إلى الأمام لكلا البلدين. العلاقة العمانية المصرية هي شهادة على قوة الصداقة الدائمة والاحترام المتبادل.. والعمل على أن تتجاوز أهدافنا بعدها الآني إلى البعد الحضاري.