استوقفتني كثيرًا كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي أمام القمة العربية ال ٣٢ في جدة، إذ فضلًا عن كونها انعكاسًا قويًا لثِقل مصر، ومحورية دورها، ووزنها الإقليمي والدولي، وتأكيدًا فوق التأكيد على أنها كانت وستظل حجر أساس، وركيزة للأمن والاستقرار في المنطقة، لكن كان للكلمة انطلاقًا من ذلك، وفوق ذلك، وَقعُها الأكبر في نفوس كل الشعوب العربية، التي لم تدع كلمة السيسي همًا واحدًا من همومها إلا واهتمت به، ولا شاغلًا يشغلها إلا وعبرت عنه، وألقت مزيدًا من الضوء عليه.
رؤية الرئيس للأمن القومي العربي باعتباره “كلٌّ لا يتجزأ”، توضح إلى أي مدى تظل “القاهرة” وكعادتها معنيَّة بالحفاظ على لُحمة العرب، من زاوية أن بقاءهم صفًا واحدًا هو السبيل لتخطي كل الأزمات، وتسوية أي خلافات، علاوة على التجاوز السريع لتوابع ما مرت به منطقتنا على مدار السنوات الأخيرة من ظروف استثنائية قاسية، هددت على نحو غير مسبوق أمن وسلامة شعوبنا العربية، وأثارت ليس فقط قلقهم الشديد على الحاضر، لكن أيضًا خوفهم المبرر من المستقبل.
دعونا نسترجع معًا ما قاله الرئيس في شأن ضرورة الحفاظ على “الدولة الوطنية”، ودعم مؤسساتها.. بحكمة وبصيرة، ورؤية مبنية على تجربة قائد شدد السيسي على أن ذلك “فرض عين وضرورة حياة”، من أجل مستقبل الشعوب، وصونًا وحماية لمقدراتها.
نَصًا من كلمته قالها كذلك دون مواربة، وبغض الطرف عمدًا عن أي موازنات أو توازنات، أو حسابات أو دبلوماسيات، إلا مصلحة أهل البيت العربي: ” لا يستقيم أبدًا أن تظل آمال شعوبنا رهينة للفوضى، والتدخلات الخارجية التي تفاقم الاضطرابات، وتصيب جهود تسوية الأزمات بالجمود”.. مبينًا أن الاعتماد على جهودنا المشتركة، وقدراتنا الذاتية، والتكامل فيما بيننا، لصياغة حلول حاسمة لقضايانا، أصبح “واجبًا ومسئولية”.
القضية الفلسطينية كان لها مساحة الاهتمام التي تستأهلها في كلمة السيسي، التي تجاوز صداها “قاعة القمة”، وحدود بلادنا وشاشاتنا العربية، إلى كل العالم، وعلى الأخص إلى “مَن يهمهم الأمر”.. بوضوح كامل وصف ما قامت به إسرائيل في الأراضي الفلسطينية، خلال الفترة الماضية، ب “التصعيد غير المسئول”، وبينما أكد استمرار جهود مصر لتثبيت التهدئة، إلا أنه حذر من أن استمرار إدارة الصراع، عسكريًا وأمنيًا، “عواقبه وخيمة”.
عاود الرئيس التأكيد على تمسكنا بتحقيق السلام الشامل والعادل، مطالبًا بإنهاء الاحتلال، وإقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من يونيو ١٩٦٧، وعاصمتها “القدس الشرقية”.
كان من الطبيعي أن تستحوذ الأزمة الجديدة على أرض السودان الشقيق، على الاهتمام المصري أيضًا، ما دفع الرئيس السيسي إلى أن يحذر من أن تلك الأزمة تنذر بصراع طويل، وتبعات كارثية، إذا لم تتعاون الدول العربية سويًا في احتوائها.. كذلك الحال فيما يخص قضيتا ليبيا واليمن، إذ لفت الرئيس إلى أن استمرار الأزمتين يفرض على نحو “أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى تفعيل العمل العربي المشترك لتسويتهما.
وفيما أكد الرئيس أن عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية تعد بمثابة تفعيل عملي للدور العربي، وبدء مسيرة عربية لتسوية الأزمة السورية، كانت لافتة وبقوة تلك الفرحة العربية برجوع “دمشق” لشغل مقعدها من جديد في “بيت العرب”.. وفرحت أنا شخصيًا بمشهد الرئيس السوري بشار الأسد “فاتحًا ذراعيه” مسرعًا باتجاه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الذي احتضنه، في “صورة عربية” تغني عن أي تعليق، وهي في ذاتها وبذاتها أبلغ من كل تعقيب.
كلمة الأمير محمد بن سلمان، عقب تسلمه رئاسة الدورة العادية ال ٣٢ للقمة العربية من الجزائر، كانت تصب في نفس الاتجاه، وتتسق تمامًا مع شعار قمة جدة: “التجديد والتغيير”.. ولي العهد السعودي قالها بشكل مباشر وصريح: “لن نسمح بتحول المنطقة العربية إلى ميدان للصراعات، ويكفينا طي صفحة الماضي التي عاشتها المنطقة لسنوات، وعانت منها شعوبنا، وتعثرت بسببها التنمية”.
المعنى ذاته وضح فيما قاله هو الآخر الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، الذي أكد أنه ليس أمام الدول العربية في هذا المشهد الدولي، الذي يمر بواحدة من أشد الفترات خطورة في التاريخ المعاصر، سوى أن تتمسك بالمصالح العربية، معيارًا أساسيًا للمواقف الدولية، وأن تلتزم بالتنسيق فيما بينها، وبالعمل الجماعي سبيلًا لتعزيز الكتلة العربية، في مواجهة ضغوط الاستقطاب، وذلك التنافس الهائل بين القوى الكبرى، على حساب القوى الأصغر أو المنفردة.
نظرة سريعة كذلك على كلمات كل القادة والملوك العرب، كافية لأن تؤكد أن ثمة حالة إجماع، على أنه آن الأوان لأن يكون ل “الحل العربي” الدور الأكبر في كل المسائل العربية، وأن يكون موقع العرب في جملتهم هو “الفاعل”.. حالة تفاؤل موازية لدى الشعوب، بشعار القمة العربية ال ٣٢ : ” التجديد والتغيير”.. نرجو أن تكون بالفعل خطوة مهمة على طريق مستقبل يعالج كل أوجاع الماضي.
mhamid.gom@gmail.com