لا يزال الجدل مشتعلا حول تدين الفضاء الإلكتروني وحمى التدوينات والرسائل الدينية التى تملأ الساحة بصورة غريبة وعجيبة.. دعوات وفتاوى وحكم ومواعظ وأمثال وقصص من التراث بعضها صحيح وبعضها مدسوس لا تعرف لها رأسا من قدمين..فوضى عارمة.. استفزت البعض..وحبذها آخرون ..وتوقف أمامها الكثيرون اما تأملا وفحصا أو دراسة وتحليلا..
حالة لا يمكن إنكارها فرضها واقع التطور التكنولوجي المعاصر والتطبيقات السهلة والمغرية على وسائل التواصل الاجتماعي..أصبح الدين فيها محورا رئيسيا لا يمكن غض الطرف عنه بعد أن صك الخبراء مصطلحات جديدة وثيقة الصلة بما يحدث على ساحة الفضاء الإلكتروني حتى ولو كانت غير دقيقة..الا أننا أصبحنا أما مسميات من قبيل التدين الرقمي أو الالكتروني او التدين السيبراني أو دين الانترنت..او دين الإعلام الجديد..او التدين الافتراضي وغير ذلك من مسميات يستخدمها باحثون ومراقبون للظاهرة المتصاعدة والمتنامية..وفقا لتوصيف المحتوى الديني على الشبكة وغيرهما من المصطلحات التي عكس محتواها نوعًا جديدًا من التدين لا ينتمي بشكل كامل للعالم الواقعي .
ولا شك ان ارتباط التدين بالبيئة الرقمية أدى إلى خلق أشكال جديدة من التصورات حول الممارسات الدينية أو الدين عموما بعضها مثالي متفائل وبعضها الآخر متشائم وبعضها الثالث خيالي غير أ ن هذه التصورات تتفق على أ ن البيئة الرقمية الافتراضية خلقت أشكالًا جديدة من الممارسات الدينية المتحررة من أنماط التدين التقليدية وقيوده ..
اللافت للنظر تعاظم حالة التدين الفردي ولجوء أفراد بأعداد كبيرة إلى الفضاء الإلكتروني تبثه رسائل دينية متنوعة حتى ولو لم يكن لهؤلاء علاقة بأي نمط من التدين ..إلا أنه غارق في تلك الرسائل التى تملأ الساحة ليل نهار بلا كلل أو ملل وتزداد المساحة يوميا بل كل ساعة وأصبح هناك متخصصون في تصميم وإعداد الرسائل والأدعية والاقوال المأثورة لتناسب كل موقف أو أي حالة يمر بها الإنسان فرح حزن قلق توتر أو كل ما يعترى النفس من مواجيد وغيرها ..
سألني بعض الأصدقاء الممتعضين من الظاهرة ألايعد الاستغراق في هذه الحالةنوعا من الرياء او النفاق ؟ وماذا نفعل هل نكشف الأشخاص الذين تلبسوا بحالة التدين الفضائي فقط ونطالبهم بأن يكونوا كذلك على أرض الواقع ام نفعل كما النعام ندفن رؤوسنا في الرمال؟!
قلت..المسألة اهون من ذلك بكثير..اذ يمكن اعتبارها نوعا من التعبير عن قلق ما او رغبة في التنفيس او الهروب من شيء ما ولا علاقة لها بالرياء او استعراض العضلات الدينية او النفاق .. وإذا كان الأمر كما تقولون فلماذا لا نعين اصحابها على التوجه الصحيح..ندعمهم في حال عدم التجاوز أو الوقوع في محظور شرعي أو اجتماعي أو غيره..فربما كانوا يمرون بحالة قلق ويرغبون حقيقية أو يتطلعون إلى أن يكونوا على الصورة التي يرسمونها أو يصدرونها للآخرين على الفضاء الإلكتروني وبالتالي ننتشلهم من ورطة ألمت بهم ونشد عضدهم نحو النور ليستعيدوا توازنا مطلوبا دنيا وآخرة..
وتذكرت تصرفا وقولا حكيما للعلامة الكبير الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى رحمة واسعة حين سئل عن كيفية التعامل مع الشاب الذي لايصلي..فقال للسائل على الفور حكم هذا أن تأخذه في يدك إلى المسجد .. ولم يقل قاطعوه أو ارجموه أو كفروه..لكن خذوا بيده إلى الطريق الصحيح وادعموه واعينوه..
فهذا النوع من التدين الفردي يحتاج في كثير من الأحيان إلى إصلاح والى تصحيح أو تعديل مسار إذا ما انحرف عن الجادة لتستقيم الأمور بسهولة ويسر بعيدا عن اختلاق معارك وهمية وتصنع بطولات لا تغني ولا تسمن من جوع ..
وهنا ل من الاجدى البحث عن طريقة للحد من فوضى النشر بعلم وبغير علم وهو ما يعني خلق حالة لتعليم الشباب وغيرهم كيفية الاختيار للمادة وضرورة الإعتماد على مصادر موثوقة للمعلومات والبعد عن كل ما يثير الفتنة أو يفتح أبواب السفسطة والجدل العقيم ..ولا بأس ان يشارك في العملية علماء ثقات وشباب الدعاة على الأقل لتقديم نماذج يمكن ان يلتمس الشباب منها واليها طريقا..مع الحذر التام من المتسللين إلى ساحة الفكر الإسلامي عموما والذين يجدون في مثل تلك الأجواء التى تتمتع بسيولة كبيرة في المعلومات والنشر على نطاق واسع فينشرون سمومهم ويزينون باطلهم ويلبسون حيلهم وخدعهم ثوب الحق وهو منها ومنهم براء..
استوقفتني دراسة مهمة أو بحث عن التدين على مواقع التواصل الاجتماعي للدكتور حسام الهامي تم على إثرها ترقيته لدرجة أستاذ مساعد بقسم الإعلام والعلاقات العامة، كلية الآداب والعلوم بالجامعة الأهلية ..قام فيها بتحليل خطاب لعينة من المنشورات الدينية الإسلامية على موقع “فيسبوك”..ومن خلال التحليل توصل البحث إلى مجموعة من النتائج والخلاصات والتفسيرات المهمة على النحو التالي:
على صعيد الموضوعات الرئيسية التي تشتمل عليها المنشورات الدينية بينت نتائج التحليل أن موضوعين رئيسيين كانا يحتلان الترتيب الأول وهما “الدعوة إلى حسن الخلق والتمسك بالقيم والدينية وحسن العبادة” و”التوجه إلى الله بالدعاء والرجاء”.
فيما يتعلق بتحليل الفكرة الرئيسية أو المحورية في خطاب المنشورات الدينية على “الفيس بوك اوضح التحليل أ ن تلك الأطروحات يتصدرها التوجه لله بالدعاء والرجاء،ما يمكن تفسيره بأن خطاب المنشورات الفيسبوكي هو في جانب منه خطاب إلتجائي يتوجه خلاله المستخدم نحو الإله أو الذات الإلهية بالدعاء والرجاء .اي أن صفحات “الفيس بوك” توظف دينيًا كساحة أو مساحة لبث الرجاء والدعاء لله ولكن مع ملاحظة أن ذلك يتم في حضور الأخرين وفي ظل دعوة مبطنة أو ضمنية لمشاركتهم للفرد أو فيما يمر به من أزمة مع الذات أو الواقع دعته لبث هذا الدعاء أو الرجاء. يلي ذلك بفارق ملحوظ عن الأطروحات التي تركز على جانبين قريبين أولهما “الحث على حسن العبادة والتعبد أو ممارسة الشعائر والعبادات”، ثم الأطروحات التي تركز على “الدعوة لمكارم الأخلاق وحسن الخلق”.
ويفسر الدكتور الهامي إرتفاع نسب هذه الأطروحات بأنه أمرٌ مرتبط برغبة الفرد في ممارسة دور إصلاحي في الواقع عمومًا وأحوال المتدينين على وجه الخصوص عبر الحث على حسن التعبد وحسن الأخلاق، كما يشير من جانب آخر إلى ملمح ديني كامن في العديد من الديانات، ومن بينها الدين الإسلامي، وهو أ ن الحث على الاستقامة وحسن الخلق وممارسة الشعائر والعبادات يعد في ذاته من الواجبات الدينيةأو من قبيل العبادات.
وعن طبيعة الرسائل الاتصالية الدينية المنشورة تصدرت نصوص الدعاء والرجاء أيضًا مجمل المنشورات يلي ذلك في الترتيب ما يمكن أن نسميه “استلهام المقدس”، بمعنى استلهام وإيراد واستدعاء نص تراثي أو نص مقدس أو نص ديني مأثور.
واكدت النتائج أ ن بث الدعاء لله عز وجل عبر صفحات التواصل الاجتماعي ظاهرة تتكرر بصورة لافتة في مختلف أجزاء هذا الخطاب. وارجعها الباحث إلى عدة تفسيرات إذ يحمل الإكثار من نشر الدعاء على مواقع التواصل جانبين نفسيين: أولهما الرغبة في التواصل مع الذات الإلهية، حيث يشكل الدعاء بعد الصلوات السبيل الثاني للحديث الإنساني للذات الإلهية.
الثاني شعور الذات بافتقاد شئ ما في الواقع وشعورها بالعجز إزاء تحقيقه، فتتوجه للذات الإلهية بالدعاء لتحقيقه.
ووفق تفسير آخر يمكن النظر لذلك المسلك على أنه محاولة من الفرد لنشر وبث شكايته ومعاناته وانشغالاته ورغباته وتطلعاته للآخرين بشكل غير مباشر، فالدعاء على صفحات التواصل الاجتماعي هو بث شكوى إلى الله، ولكن بثها في العلن. فلو أن الفرد يريد أن يبث هذه الشكوى لله وحده لسلك مسلكا آخر مسلك المناجاة الفردية للذات الإلهية ولكن الفرد حين يبث هذه الشكوى عبر صفحته على مواقع التواصل الاجتماعي فهو يشير للآخرين عن همومه وانشغالاته الشخصية إلى جانب الدعاء .
وهنا يمكن تفسير السلوك الاتصالي لمستخدمي التواصل الاجتماعي عند كتابة المنشورات الدينية بأنه شكل من أشكال الإلتجاء إلى الكتابة للتغلب على القلق النفسي وإفراغ النفس من الهم والحزن وتخفيف الضغوط النفسية ويكون اللجوء للدين هنا أمرًا منطقيًا كونه يشكل ملاذًا أساسيًا ودعوة للتغلب على الحزن واستعادة حالة الرضا والاتزان النفسي فالفطرة الإنسانية تنظر إلى الله بوصفه يشكل الملاذ والملجأ عند الشعور بالهم والحزن في لحظات العجز أمام الواقع. والدليل العلمي على ذلك أ ن الذات الإلهية كان لها حضورًا طاغيًا في فئة المخاطب أو الموجه له الخطاب كما أوضحت النتائج الكمية في موضع آخر.
إذن فان فقدان شئ في الواقع يجعل البعض يلجأ إلى الدين للاتكاء عليه لمخاطبة الآخرين به وإشعارهم بعمق الأزمة التي يمر بها وبأنه لجأ للدين لحلها فقد لوحظ أ ن الدين والتدين هنا هو وسيلة لبث الصبر في أنحاء الذات التي تشعر في أعماقها بقصور الواقع عن تحقيق تطلعاتها، فيلتجأ الفرد إلى الدين لبث الصبر من جانب، واليقين من جانب آخر.
وعلى ذلك يمكن القول بأن الأفراد على مواقع التواصل الاجتماعي قد يعمدون إلى إتخاذ الدين والتدين كوسيلة لحل مشكلات الواقع الاجتماعي والسياسي وإعادة طرحه وفق تصورات الذات التي تحاول أن تتوسل حل مشكلات الواقع عبر الدين والتدين وبث الأقوال الدينية الكاشفة عن تلك المحاولات. كما يتحول الدين من جانب آخر والخطاب الديني إلى آلية لبث الصبر والاحتمال وبث الأمل في النفس برجاء المثوبة على هذا الاحتمال من الإله.
ولاحظ الباحث أن الخطاب الديني للمنشورات هو في جانب منه خطاب يهيمن عليه ملمح صوفي يتجه أو يميل نحو الزهد في الدنيا والتعلق بالإله، والسعي إلى الإرتباط به وإفراغ القلب له..
واستدرك الباحث بطرح سؤال مهم: هل يحدث ذلك فعلا عن قناعة شخصية؟ أم يأتي يأسًا من الحياة ومشكلاتها وعجزًا عن مواجهة المصاعب التي تواجه الفرد فيها؟
اجاب بالقول هذا ما لا يستطيع البحث الإجابة عليه وربما يختلف هذا الأمر من فرد لآخر.
من سمات وملامح خطاب المنشورات الدينية أيضًا أ نه خطاب تهيمن عليه فكرة النصح والوعظ والتبليغ بالدين وهداية الآخرين وحثهم على حسن العمل.. مسلكٌ لا يمكن رده إلى محاولة الفرد لنيل رضا الله فقط، بل هو منزع نفسي يهدف بقدر ما إلى إرضاء الذات عبر محاولات جاهدة يبذلها الكثيرون من المتدينين وغير المتدينين لحمل الآخرين والدفع بهم دفعا نحو ما نعتقد أنه صواب.
الدراسة والتحليل مسألة مهمة للغاية للمساعدة في وضع خطة واستراتيجية التعامل مع الظاهرة وتعظيم إيجابياتها والحد من الآثار غيرالمرغوب فيها الان ومستقبلاً..
والله المستعان ..
megahedkh@hotmail.com