أعجب وأتألم حين أقرأ أو أسمع لبعضهم أن زلزال المغرب وإعصار ليبيا قد جاءا عقابا من الله لأهل البلدين على ما اقترفوه من ذنوب ومعاص، وكأن الله عز وجل قد أعطى هؤلاء المتألهين سره، واختصهم دون خلقه بعلم مراده، ويزيد من الألم أن كل فريق منهم يشخص الذنوب والمعاصى حسب هواه، ويجتهد فى كشف الأسباب التى من أجلها حل الزلزال والإعصار، وغالبا ما تكون هذه الأسباب سياسية أو أيديولوجية، حتى وصل الأمر بالزعيم الشيعى العراقى مقتدى الصدر إلى الزعم بأن الله قد عاقب أهل ليبيا على جريمة قتل الزعيم الشيعى اللبنانى موسى الصدر، الذى اختفى أثناء زيارة له مع اثنين من أصحابه إلى ليبيا بدعوة من رئيسها معمر القذافى فى أواخر أغسطس 1978، وما زال مصيرهم مجهولا حتى الآن.
قال مقتدى الصدر فى تدوينة على موقع “إكس” : “إن ذنب ليبيا غير مغفور”، ونسي أن الجريمة فى ديننا لا تورث، لو كان فى الأمر جريمة، وأن المسئول عنها هو القذافى والزمرة التى أحاطت به، والله تعالى أعلم، وليس هؤلاء الضحايا الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ الذين جرفهم الطوفان ودمر منازلهم ومدنهم وقراهم.
وقال آخرون إن الله ضرب بالإعصار شرق ليبيا عقابا لأهل الشرق على ما كسبت أيديهم، بينما يروج البعض أن المغرب ضحت بالدين من أجل السياحة، واستحقت العقاب بالزلزال، ونسي هؤلاء وهؤلاء أن هذه الكوارث الطبيعية من آيات الله، والله وحده هو الأعلم بمراده، قد يكون فى الأمر تنبيه وتحذير، وقد يكون فيه ابتلاء لأهل ليبيا والمغرب، وربما يكون الابتلاء لنا جميعا قبل أن يكون للمتضررين المباشرين، ليجزي الله الصادقين بصدقهم، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، وقد ابتلي المؤمنون فى عهد الرسول مرات عدة، وزلزلوا زلزالا كبيرا، وهم “مؤمنون”.
و لما مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم تصادف أن خسفت الشمس فى ذلك اليوم، فقال بعض الناس : ” خسفت الشمس لموت إبراهيم ” جريا على عادتهم فى ربط الخسوف، وهو ظاهرة طبيعية، بأسبابهم البشرية على قدر معارفهم ومفاهيمهم، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يصحح هذه المفاهيم التى لاتستند إلى دين ولا إلى علم، فقام وخطب الناس، وقال فى خطبته : ” إن الشمس والقمر من آيات الله، لايخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فكبروا وادعوا الله وصلوا وتصدقوا”.
أي أننا أمام هذه الظاهرة الكونية، ومثلها الكوارث الطبيعية كالزلازل والأعاصير والفيضانات، لا نسارع إلى التفاسير الأسطورية، ونتكلم فيها نيابة عن الله سبحانه وتعالى، فنلقى بالاتهامات على الناس، ونشمت فيمن وقع ضحية لها، ونعدد عليه أخطاءه وذنوبه، ونظن فى أنفسنا الصلاح والتقى، وأننا بمنأى عن النوازل، لأننا لم نذنب مثلهم، وإنما علينا كما قال الرسول الكريم : ” فكبروا وادعوا الله وصلوا وتصدقوا”.
هذه هى المشاركة الوجدانية والمساندة المادية الواجبة، أن نكبر الله ولا نتأله عليه، ولا نوزع الأحكام على الناس، وأن نصلى وندعو للضحايا، الذين هم إخوتنا فى الدين وفى الإنسانية، ونهرع إليهم لإنقاذهم ومساعدتهم، ونتصدق بما عندنا من خير لسد احتياجاتهم.
وهذه المشاركة تتطلب نوعا من الوعى الجمعى بالواجب الإنسانى، والواجب الدينى، وفقه الضرورات والأولويات الذى تستدعيه النوازل، لا أن نشمت ونفرح بما أصاب الأطفال والنساء والمواطنين الأبرياء، وننتهز الفرصة لتخليص حساباتنا القديمة والجديدة، ونستعلى على الخلق، وكأن الله ـ جل شأنه ـ قد أعلن انحيازه إلينا، واقتص لنا من خصومنا ومنافسينا.
هذا ليس من الدين ولا من الإنسانية فى شيء، وإنما الأجدر بنا أن نجعل المصاب الجلل فرصة للتفكير فيما آلت إليه أحوال الأمة من تفكك وتشرذم وخصام وعناد وعداء بين الإخوة، فإن للموت جلالا ورهبة، والموت يأتى بغتة، وأنفاسنا معدودة، والدنيا أقل من أن نتصارع عليها، ونضيع أوطاننا وشعوبنا ومستقبل أمتنا من أجلها.
وقد بلغ عدد الضحايا حتى الآن فى كارثة فيضان ليبيا ما يقرب من 20 ألف شخص، وفى زلزال المغرب نحو ستة آلاف، بينما بلغ عدد المصابين والمشردين والمفقودين هنا وهناك أضعاف هذا العدد، وهو مايعكس ضخامة الكارثتين، ويحفز على إيقاظ الضمائر الميتة، ورد الموهومين بالمكاسب والمناصب إلى طريق الحق والعدل.
الأجدر بنا أن نجعل من لحظة الفاجعة هذه فرصة لتصحيح أوضاعنا التى لايرضى عنها الله ورسوله ، وفرصة للمصالحة الكبرى، تعالج انقسام الدولة فى ليبيا إلى دولتين وحكومتين، وتنهى القطيعة المفتعلة بين الأشقاء فى الجزائر والمغرب، وتوقف مهزلة الحرب بين العسكريين فى السودان، وتستنقذ لبنان من الهوة السحيقة التى ينحدر إليها، وتعيد ترميم الأوضاع المهترئة فى الشقيقتين سوريا والعراق، اللتين تمزقتا بما فيه الكفاية، وتوحد الشعب الفلسطينى بكل قياداته وفصائله تحت راية واحدة، فلا تنطلق منهم رصاصة إلا إلى صدر العدو.
يجب أن نصحو جميعا على الحقيقة التى لا محيص عنها، وهي أننا أبناء أمة واحدة، دمنا واحد وحزننا واحد، وديننا واحد، وهويتنا واحدة، ومصيرنا واحد، فلماذا كل هذه الصراعات والنزاعات التى تفتح ألف باب لشياطين الإنس والجن كى تفرض علينا وساوس الكراهية، وتدفعنا إلى التلاسن والتنابز واستعلاء الأخ على أخيه ؟
الأمة فى أمس الحاجة إلى العقل الرشيد الذى يأخذها إلى العلم النافع، والعمل الصائب، وليس أشد بلاء على أية أمة من هذه النوازل التى تأتى بالموت الجماعى كي تفيق من غفوتها وتعود إلى رشدها، وحين يحدث ذلك سوف تتفرغ الحكومات لبناء الأوطان على أسس سليمة، واتخاذ أقصى أساليب الوقاية من الكوارث الطبيعية، ويكون همها الأكبر بناء الإنسان وحماية الأوطان، وليس الصراعات والنزاعات.