كنت ألتمس طريقي إلى تلك الصالة الواسعة بخطى وئيدة مترددة ولاأدري مالسبب،ماسبب اضطراب قلبي وهواجسي،ما إن وصلت ،حتى رأيت الباب مفتوحا على مصراعيه وصوت عبد الحليم يصدح من التلفاز (على حسب وداد قلبي يبووي) في الصالة المضاءة بنور الشمس المنهال مثل شلال فضي من النوافذ الواسعة ،راحت عيناي تسبح في وجوههن ،كن خمسة أو ستة نسوة على ما أتذكر ،جلابيبهن نظيفة،الشعر مقصوص قصة غير نظامية بخصلات بالكاد تصل أطولها الحافة العليا لصيوان الأذن،انتشرن في الصالة بعشوائية،جذبتني أصوات الجالسات قبالتي على الأريكة ،يرددن مع حليم (راح اكول للزين سلاماات سلاماات على حسب وداد قلبي يابووي)
كما يردد الأطفال النشيد الوطني يوم رفعة العلم بحماس دون أن يفقهوا شيئا عما فيه من مفردات الموت والدم والتضحية ،ولم يتنبأوا يوما برغبة هذا العلم في تغليف أجسادهم التي ستغتالها الحروب والجبهات،أخذتني رجفة حين أطلت النظر في تلك الوجوه، وجوه شيء ما فيها قد انطفأ،أغنية حليم لم تغيب شبح اللاحياة فيها،كن يبتسمن ببراءة ،ينظرن بعيون هائمة زائغة مفصومة عن الواقع،لكن الوجوه ،بلى تلك الوجوه ،لاأعرف كيف أصفها،وكأن بريق الحياة قد هجرها ،تشبه وجوه الموتى، شاحبة لاتعابير فيها ،شاحبة تماما.
مثل ليمونة فقدت ماءها،أو زهرة اسودت أوراقها أو كون هجرته الشمس،شيء منطفئ ، هكذا بالضبط،شيء منطفئ
التففت خارجة إلى الرواق لأستعيد بعض من نبضي الذي كاد أن يتوقف عند مشاهدتي لهن،نسوة على قيد الموت تسجنهن الحياة، أسندت ظهري إلى الجدار ،حين لمحتها تمر أمامي تمشي قاصدة وجهة ما في ذلك الرواق،فارعة الطول،هيفاء،بيضاء البشرة،أقصد ربما كانت فيما مضى بيضاء البشرة ،أما اليوم فمحياها لايختلف عن لون تلك الوجوه التي يصهرها التيه في بوتقة
سارت بيننا وكأنها لاترانا ،لاتسمعنا،هي في عالم آخر من نسيج عقلها،تعيش في ظلالات لاندري أهي سعيدة أم بائسة،عيناها ملبدتان بالغيوم ضبابيتان كأنهما من زجاج
تراخت ساقاي وانخفض نبضي أكثر وأنا أرنو إليها والأسى ينخر قلبي ،حين باغتني صوت من كانت تقف لصق كتفي وهي تهتف بي قائلة:
_هذه الصبية من الموصل ،هي هكذا دوما مفصومة عن العالم لاتدرك ماحولها،لانعرف أدنى تفصيلة عن قصتها،فقط حين نقوم بتحميمها تصرخ ململمة جسدها وهي تصيح :
(ابتعدوا عني،أنا شريفة،أنا شريفة)
خرجت من خلف تلك الأسوار العالية وأنا محملة بجراح قرون من التاريخ ،ينهش الظلم قلبي وعقلي ،وما إن دخلت بيتي حتى اتجهت مسرعة إلى الحمام،وقفت مدة لاأعرف كم طالت تحت دش الماء الساخن،أغسل ماعلق بي من ظلم بشري مازال يسير معنا مثل ظلنا مذ طرد آدم من جنته.
لم أكن أفرق بين دموعي وقطرات الماء الساخن المنهمرة على رأسي كالمطر ،رأسي يتحدث ،يسأل ويجيب،من منا الأشقى ؟
هولاء داخل الأسوار أم نحن الذين نمتلك العقل خارجها؟
أيمكن للمجنون أن يكون أكثر راحة منا بانفصاله عن الواقع؟أم هو يتمزق في عالم من خياله لانعلم عنه شيئا؟!!
كنت كالهاربة من جحيم دخلته طواعية،أهرول من دون إدراك ،وأنا أودع لافتة كبيرة ترمز لأرض واسعة يسكنها أحياء أموات مكتوب عليها
(مستشفى الأمراض النفسية والعقلية)