إن جبر الخواطر خلق إنساني رفيع وكريم وعظيم ، لا يتخلق به إلا أصحاب النفوس النقية ، والرجولة الكاملة ، والشهامة الوافرة ، فيقول الحق سبحانه:” وإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا” النساء / 5 ، جبرًا لخاطرهم وتطييبًا لنفوسهم ، ويقول سبحانه جابرًا لخاطر نبينا صلى الله عليه وسلم : ” وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى”الضحى/ 5.
وكان من دعاء النبي (صلى الله عليه وسلم) بينَ السَّجدتينِ في صلاةِ اللَّيلِ : “ربِّ اغفِر لي وارحَمني واجبُرني وارزُقني وارفَعني ” ، يقول سفيان الثوري: ” ما رأيت عبادة يتقرب بها العبد إلي ربه مثل جبر خاطر أخيه المسلم” ، وقديمًا قالوا : من سَارَ بينَ النَّاسِ جابرًا للخَواطرِ أدركَه لطف اللهُ في جَوفِ المَخاطر .
وقد حثنا نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) على الوقوف بجانب الآخرين وجبر خواطرهم في وقت المحن والشدائد ، فقال (صلى الله عليه وسلم) : ” مَن نَفَّسَ عن مُسلِمٍ كُرْبةً من كُرَبِ الدُّنيا، نَفَّسَ اللهُ عنه كُرْبةً من كُرَبِ يومِ القيامةِ، ومَن يسَّرَ على مُعسِرٍ، يسَّرَ اللهُ عليه في الدُّنيا والآخِرةِ، ومَن سَتَرَ على مُسلِمٍ، سَتَرَ اللهُ عليه في الدُّنيا والآخِرةِ، واللهُ في عَونِ العَبدِ ما كان العَبدُ في عَونِ أخيهِ”.
ومن أعظم ألوان جبر الخاطر جبر خاطر المحتاجين والضعفاء حيث جاء أعرابيٌّ إلى رسولِ اللهِ (صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ) فقال , دلَّني على عملٍ يُدخلُني الجنةَ قال : أطعمِ الجائعَ واسقِ الظمآنَ وأمرْ بالمعروفِ وانهَ عنِ المنكرِ فإن لم تُطِقْ فكفْ لسانَكَ إلا من خيرٍ” .
ويضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على من هم أكمل الناس وأنفعهم يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم : ” أحبُّ الناسِ إلى اللهِ أنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ ، وأحبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سُرُورٌ يدْخِلُهُ على مسلمٍ ، أوْ يكْشِفُ عنهُ كُرْبَةً ، أوْ يقْضِي عنهُ دَيْنًا، أوْ تَطْرُدُ عنهُ جُوعًا ، و لأنْ أَمْشِي مع أَخٍ لي في حاجَةٍ أحبُّ إِلَيَّ من أنْ اعْتَكِفَ في هذا المسجدِ ، يعني مسجدَ المدينةِ شهرًا ، ومَنْ كَفَّ غضبَهُ سترَ اللهُ عَوْرَتَهُ ، ومَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ ، ولَوْ شاءَ أنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ مَلأَ اللهُ قلبَهُ رَجَاءً يومَ القيامةِ ، ومَنْ مَشَى مع أَخِيهِ في حاجَةٍ حتى تتَهَيَّأَ لهُ أَثْبَتَ اللهُ قَدَمَهُ يومَ تَزُولُ الأَقْدَامِ” .
وقد نهانا ديننا الحنيف عن كسر خاطر اليتيم والمسكين أو غيرهما ، حيث يقول الحق سبحانه:” وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ “.سورة الضحى / 1-11.
فقد جبر الرسول صلى الله عليه وسلم خاطر
سيدنا عبدالله بن عبد الله بن أبي بن سلول رضي الله عنه حينما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتبين موقفه من مقولته المشهورة في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و لنتأمل بعض الشيء من الرواية التاريخية الشهيرة حول زعيم المنافقين بالمدينة، عبدالله بن أبي بن سلول، حين قام رجل من المهاجرين بضرب رجل من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذاك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: ما بال دعوى جاهلية؟، قالوا يا رسول الله: كسع ( ضرب) رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال: دعوها فإنها منتنة، فسمع بذلك عبد الله بن أبي فقال: فعلوها؟، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ النبي ـ صلى الله عليه وسلم – فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم -: دَعْه، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه .. رواه البخاري.
وتزيد لنا كتب السيرة الشريفة هذه القصة بياناشافيا فننقل جزءا منها :
فقد نزل رجل مع الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة، فتشاجر رجل من الأنصار مع رجل من المهاجرين، فوصل الخبر إلى عبد الله بن أبي قال: صدق القائل صاحب المثل: ” جوع كلبك يتبعك، وسمن كلبك يأكلك”
ثم قال: والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فذهب زيد بن أرقم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله! سمعت عبد الله بن أبي بن سلول يقول هذا اليوم كذا وكذا.. والله لو كان قالها في غيرك وفي غير الإسلام لما رفعتها إليك يا رسول الله! فبعث النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى عبد الله بن أبي فسأله ، فحلف بالله ما قال من ذلك شيئا وحلف أن زيد بن أرقم كاذب ، فحلف الفتى زيد بن أرقم وكان شاباً انه صادق .
فيقول الأنصار: يا رسول الله! لا تصدقه، عبد الله بن أبي بن سلول لا يقول هذا ، فخرج هذا الشاب، فجعل الناس يقولون : أتى زيد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالكذب وقال: فأخذني ما قرب وما بعد من الهم حتى كاد يقتلني، كيف أكذب وأنا سمعت الرجل يقول هذا الكلام؟ فأنزل الله عزَّ وجلَّ في عصر ذاك اليوم قوله سبحانه وتعالى: ( يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ) ، [المنافقون:8]. فأتى الرسول صلى الله عليه وسلم فدعا زيد بن أرقم على مرأى ومسمع من الأنصار ، فقرأها عليهم، ثم قال: “إن الله قد صدقَكَ يا زيد” ، ثم سرى الخبر إلى عبد الله بن عبد الله بن أبي، الذي قال أبوه هذه المقالة، وظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم سوف يقتله، فقال: ( يا رسول الله! إن أبي قال ما سمعت، وقد أنزل الله سبحانه وتعالى ما أنزل عليك، وأنا سمعت أنك تريد قتله، وأنا لا أرضى أن أرى قاتل أبي يمشي على الأرض، فإن كنت تريد قتل أبي أتيتك -الآن- برأسه ووضعته بين يديك ) ، لأنه رضي الله عنه مؤمن وأبوه منافق، فقال صلى الله عليه وسلم: (بل نترحم على أبيك حتى يلقى الله).
وعندما رجع عبد الله بن أبي المدينة وصل إلى أسوارها؛ فقام عبد الله بن عبد الله بن أبي فسلّ سيفه ووقف على مدخل المدينة، فلما دخل الناس واجتازوا وقف، فلما رأى أباه قال: [ والله لا تدخل حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدخول، قال: ولَمْ؟ قال: لأنك الأذل ورسول صلى الله عليه وسلم الأعز:( لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ) ، [المنافقون:8] فإن أذن لك وإلا أخرجناك من المدينة، قال: تفعل بي وأنت ابني؟ قال: كما سمعت! فذهبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقالوا: يا رسول الله! ائذن لـعبد الله بن أبي أن يدخل المدينة، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: ائذنوا له، فأذنوا له فدخل].
لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول إلا حقا وصدقا، حتى في مزاحه مع أصحابه ودعابته لهم، ومن ذلك تلك المرأة العجوز التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تسأله أن يدعو لها بدخول الجنة، في الحديث الذي يرويه الحسن رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فقد سألته صلى الله عليه وآله وسلم أن يدعو الله لها بأن تدخل الجنة، فما كان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن قال لها: “لا يدخل الجنة عجوز، فقال الحسن رضي الله عنه: فولت العجوز وهي تبكي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أخبروها: ليست يومئذ بعجوز، وأنها يومئذ شابة. إن الله عز وجل يقول: “إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً” سورة الواقعة آية 35″.
وجبر خاطر أهل مكة يوم الفتح فقال لهم ( اذهبوا فأنتم الطلقاء ) في معركة أخيرة بين جيش الاسلام وجيش الكفر ….
وجبر خاطر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء والمعراج برحلة ربانية قدسية علوية
، تلك المعجزة الربانية ذات الدلائل الإلهية و النفحات القدسية و التجليات السبحانية من الله عزو جل وتغيير نواميس الكون الأبدية من أجل حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم وتسخير كل الكائنات من أجل شرف ومكانة وعظمة وجلال وجمال وكمال النبي محمد صلى الله عليه وسلم..
ويجبر خاطر نبيه في تكذيب قريش له في خبر ومعجزة الإسراء والمعراج فيقول تعالي ( أفتمارونه علي ما يري * ولقد راءه نزلة أخري * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى * إذا السدرة مايغشي . مازاغ البصر وما طغى * لقد رأي من آياته ربه الكبري ) النجم / 12-18 ، فكانت قمة جبر الخاطر من الله تعالي لنبيه صلى الله عليه وسلم في موقف من أشد مواقف الدعوة الإسلامية ..وفي مرحلة فاصلة من مراحلها الدعوية .. والحمدلله رب العالمين..
جمعتكم طيبة مباركة ..